الفخاخ الثلاثة والحصاد
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
عبد الاله بلقزيز:
يبدو أن موجة ما أطلق عليه الإعلام الغربي اسم “الربيع العربي” انحسرت، فدخلنا صيفاً مُجدباً قد يكون مديداً . ولعل المطلوب كان أن تقف الهزة العنيفة عند هذا الحد، فلا تتعداه إلى حيث تصير عواقبها وخيمة، أو نتائجها خارج السيطرة، فلقد أدت “الثورات” وظيفتها في إخراج من ليس مرغوباً فيهم من المشهد، وإدخال من أريد إدخالهم .
ولم يكن يعني ذلك أن الذين عليهم أن يرحلوا هم – حصراً – أولئك الذين غادروا بالقتل أو بالنفي أو بالسجن، ولكن الذين تسلطوا على مصائر “الربيع العربي” شاءوا أن تنتهي دحرجة أوراق اللعبة عند هذه الحدود لحاجة في نفوسهم، وخرجوا من “النازلة” بنتيجتين ثمينتين: تخلصوا – أولاً – ممن وجدوا حاجة في التخلص منهم، وخرّبوا النسيج الوطني والاجتماعي العربي بالحروب الأهلية الدموية التي أطلقوها فيه، وبمشاريع حروب داخلية قادمة بين القبائل والطوائف والمذاهب ثانياً .
والأنكى أنهم خرجوا من هذه “الفوضى الخلاّقة” بتحصيل شهادة “حُسن سيرة” من أهالي المنطقة التي عاثوا فيها خراباً، ومن الناشطين “الثوريين” من جماعات “المجتمع المدني”، كما من النخب “الجديدة” التي وصلت إلى السلطة، فجأة، وبقدرة قادر، تحول مهندسو “الفوضى الخلاقة” من إمبرياليين واستعماريين، ورعاة للصهيونية، و”صليبيين” . . إلى “مناصرين للديمقراطية وحقوق الإنسان” من دون تقديم مقدمات وتمهيد أصول، كما يقول القدماء! كيف حصل ذلك؟ كيف تغيرت معايير التقدير والتسمية؟ أسباب ذلك عديدة ومتشابكة، وليس هذا المقال مقامها . لكن الذي لا مِرْية فيه أننا لن نظفر بجواب دقيق عنها ما لم نحلل، على وجه من العمق والدقة، استراتيجية الاختراق الغربي (الأمريكي خاصة)، وفي وجوهه كافة: الاختراق السياسي، الإعلامي، الثقافي، المالي . .، لمجتمعاتنا العربية، ومؤسساتها الأهلية (غير الحكومية)، ونخبها السياسية والثقافية، وما استجره ذلك الاختراق من تغيرات بعيدة الأثر في منظومات قيم المثقفين، والناشطين المدنيين، والحزبيين، وقطاعات متعلمة من الرأي العام .
يهمنا في هذا المقام، فحسب، أن نطالع مسألتين، في الموضوع، على درجة كبيرة من الأهمية في مضمار تسليط الضوء على ما جرى من “ثورات”، في العامين الماضيين، وعلى المآلات التي آلت إليها على صعيد تركيبة النظام السياسي القائم، وحظوظ نجاحه في تحقيق عملية التغيير الديمقراطي المنشود، على الرغم من عدم وجود تناسب بين المسألتين .
الأولى أن الحدود بين داخل اجتماعي وخارج تضاءلت، إلى درجة كبيرة، في عصر العولمة والاختراق السياسي والإعلامي إذا ما قورنت بما كانت عليه في عهد السيادات الوطنية . ومع أننا نظل نسلّم بمركزية العوامل الداخلية في صناعة ظواهر المجتمع – والثورة واحدة منها – ونعيد التأكيد أن العوامل الخارجية لا تعدو كونها عوامل مساعدة، إلا أننا لا نحسب ما هو مساعد في عداد ما هو ثانوي على مثال التمييز الماوي الشهير بين التناقضات الرئيسة والتناقضات الثانوية . وإن شئنا الدقة، فإن العوامل المساعدة زادت تأثيراً، في الزمن الحالي، إلى الحد الذي ما عاد في مُكْن العوامل الداخلية أن تمارس أثرها من دون العامل الخارجي .
وبيان ذلك، في ما جرى أثناء “الربيع العربي”، أن الحراك الشعبي والمدني ما كان ليبلغ تلك الدرجة من التأثير الحاسم التي بلغها ووصلت حد إطاحة نظم سياسية، لولا أن البيئة الخارجية كانت مساعدة . كان ذلك واضحاً أشد الوضوح في ليبيا، ثم جزئياً في اليمن . أما في تونس ومصر، فإن بصمات العامل الخارجي ملحوظة، مثلاً، في حياد المؤسسة العسكرية كما في تصريحات سياسية عدة، جرت على ألسنة مسؤولين كثر في الحكومات الغربية، طالبت رأس الدولة بالرحيل . ولو كان أمكن القوى الخارجية التدخل العسكري في سوريا، على مثال ليبيا، أو إجبار الجيش على التزام الحياد، لاختلفت النتائج، وإن كانت بصماتها في تخريب الوضع الداخلي من الوضوح بحيث لا تقبل الإنكار .
أما الثانية فمدارها على ملاحظة الحصاد الهزيل لتلك “الثورات” العربية على نحو ما يعبّر عنه نوع “التغيير السياسي الديمقراطي” الذي حصل في أعقابها، وأتى على مدنية الدولة ومكتسباتها الليبرالية – على هزالها – بالتهديد إن لم يكن بالمحو التدريجي . ولَكَم يَشعُر المرء بشماتة التاريخ حين يرى كيف يمكن ل”الثورة” ول”الديمقراطية” أن تتحولا إلى حرب أهلية معلنة أو صامتة تنتظر الصاعق . ونحن لا نعزو هذا الحصاد الهزيل، لما يسمى “الربيع العربي”، إلى ضعف القوى الشبابية والمدنية التي فجرت الأحداث، وأدارت فصول المعركة ضد النخب الحاكمة السابقة، ولا حتى إلى قوة الأحزاب التقليدية – والإسلامية منها خاصة – وجاهزيتها السياسية والتنظيمية لقطف غلال ما ازدرعه الشباب، وإنما نعزو الحصاد الهزيل إلى تدخل إرادات خارجية رامت إجهاض ما جرى، وإغراقه في تناقضاته الداخلية . هكذا تتحول العوامل الخارجية المساعدة إلى عوامل مجهضة تمارس فعل الإجهاض باسم المساعدة والنصرة .
وبعد، إذا كانت انتفاضات العامين 2011 و2012 قد سُرقت وأُجهضت بفعل فاعل خارجي، وجد من يشاركه مصادرتها في الداخل، فإن أخرى قادمة – لا محالة – ستتعلم كيف لا تقع في الفخاخ الثلاثة التي نُصبت لسابقتها، وأتت عليها بمعاول الهدم والتخريب: الثقة بالأجنبي والرهان عليه، عسكرة الثورة أو الانتفاضة، استعجال الخروج من المرحلة الانتقالية من دون المواضعة على عقد اجتماعي، فمأثورنا يعلمنا أن المؤمن لا يُلدغ من الجُحر مرتين .