الـ«واتس أب» يستنزف جيش الاحتلال
حرب شائعات من نوع جديد يواجهها جيش الاحتلال، أدواتها وسائل الاتصال الحديث، وفي مقدمها الـ«واتس أب» الذي يبدو واضحاً أنه بات مصدر صداع بلا دواء للدولة العبرية
على هامش المواجهة الميدانية في جبهة قطاع غزة، يخوض الجيش الإسرائيلي مواجهة من نوع جديد على الجبهة الداخلية تتعلق بعاصفة الشائعات التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي وتضطر الناطق باسم الجيش إلى التعامل معها نفياً أو تفنيداً أو تصويباً. وتتوزع محاور هذه الجبهة ما بين التسريبات التي يقوم بها جنود من داخل الجيش ويكشفون من خلالها عن أنباء تتصل بالأحداث الميدانية، والاختراقات التي يقوم بها فلسطينيون لشبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية ويزرعون عبرها أخباراً ملفقة سرعان ما تتفاعل في أوساط الجمهور الإسرائيلي. وفي الحالتين يجد الجيش نفسه محاصراً ما بين مطرقة تجاهل هذه الإشاعات وسندان التعامل معها. ففي الحالة الأولى، يفتح التجاهل الباب أمام تفشي الإشاعات وتفاعلها بما يخلف آثاراً معنوية سلبية على المستوى الشعبي، وفي الحالة الثانية يكرس التعامل الدائم معها استنزاف مؤسسة الناطق باسم الجيش ويضعها في حال استنفار متواصل يحولها إلى مؤسسة «الناطق باسم الجيش لنفي الشائعات».
وأياً يكن، فإن ظاهرة تناقل الأخبار والشائعات عبر تطبيقات مثل «واتس أب» و«تويتر» و«فايس بوك» تبقى الظاهرة الإعلامية والاجتماعية الأبرز للحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، وهي ظاهرة من شأنها أن تدفع إلى إعادة النظر في جدوى كثير من التدابير العملية والإجراءات البروتوكولية والضوابط القانونية التي حكمت حتى الآن طريقة الإدارة الإعلامية للحروب الإسرائيلية من خلال مؤسسات مثل «الناطق باسم الجيش» و«الرقابة العسكرية» ووحدات «أمن المعلومات» في الجيش و«الرقابة الذاتية» لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
وقد بدأت إرهاصات هذه الظاهرة قبل نحو شهر، مع اختطاف المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية، إذ امتلأت الشبكة بشائعات متعاقبة تحدث بعضها عن العثور على الجنود والبعض الآخر عن وفاتهم وبعض ثالث عن معلومات تتعلق بعمليات البحث. وفي كل مرة، كان الناطق باسم الجيش يجد نفسه مضطراً إلى تفنيد الشائعات والتحذير من نشرها أو التفاعل معها. لكن السواقي التي انطلقت قبل شهر برسائل محدودة عبر تطبيق «واتس أب» تحولت إلى سيول متدافعة في خلال العدوان على غزة، بل حتى في الأيام التي سبقته. فقد تناقل مستخدمو «واتس أب» من الإسرائيليين أخباراً تتحدث عن قرار المجلس الوزاري الأمني المصغر تجنيد 4000 جندي احتياط من أجل الانطلاق في عملية عسكرية ضد غزة قبل أن يخرج هذا القرار إلى العلن. بل إن هذه الشائعات التي نُقل في حينه عن «مصادر عسكرية» نفي صحتها، تناقلت أيضاً اسم العملية العسكرية وحددته بـ«الجرف الصلب»، وفي كلا الحالتين تبين أن أخبار الـ«واتس أب» صادقة ودقيقة في مقابل المواربة والتضليل اللذين يمارسهما الإعلام الرسمي بمؤسساته المختلفة.
وما هي إلا أيام حتى تحول الـ«واتس أب» إلى مصدر أول للمعلومات الميدانية المتعلقة بالحرب وأحداثها، خصوصاً في ما يتصل بالخسائر البشرية التي يحرص الجيش عادة على اتباع إجراءات خاصة قبل الإعلان عنها. وأدت هذه الظاهرة الى نداءات في الصفحات الاولى من معلقين إسرائيليين للتوقف عن إرسال تحديث غير رسمي للمعلومات المتعلقة بالإصابات. وعلى أمل السيطرة على المعلومات، صادر الجيش الهواتف الخلوية من الجنود الذين يرسلون الى القتال، واصفاً في بيان أن «الرسائل غير الرسمية التي ترد عبر واتس أب غير مسؤولة وتنتشر بسرعة في أنحاء الشبكة الاجتماعية».
بيد أن مصادرة الأجهزة الخلوية لم تحد من هذه الظاهرة، الأمر الذي دفع الجيش إلى البدء بملاحقة مروّجي الشائعات وسط الجنود قانونياً. وأمس أعلن الجيش أن الشرطة العسكرية تجري تحقيقات مع عدد من الجنود الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار ميدانية. وذكرت تقارير إعلامية إسرائيلية أن الشرطة العسكرية اعتقلت ثلاثة جنود بشبهة استغلال وظائفهم للحصول على معلومات تتعلق بأسماء جنود قتلى ومن ثم تعميمها عبر تطبيق «واتس أب». وأشار موقع «يديعوت أحرونوت» إلى أن الشرطة العسكرية استعانت في تحقيقاتها بوسائل تقنية متطورة للتوصل إلى مصدر التسريب، لافتة إلى أن أحد الجنود الثلاثة يخدم في «وحدة المصابين» في شعبة الموارد البشرية، والثاني يعمل في سلاح الطبابة والثالث هو عضو في الحاخامية العسكرية المسؤولة عن تجهيز الجنود للدفن.
كذلك أظهرت التحقيقات تورط مدني في نشر المواد المحظورة عبر «واتس أب»، فيما تواصل الشرطة العسكرية التحقيق في مصدر التسريب الذي أفضى إلى نشر صور أفراد من الحاخامية العسكرية وهم يقومون بصناعة التوابيت استعداداً لتلقّي الجنود القتلى ودفنهم.
ووفقاً لما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية، فإن الجيش سيسعى إلى محاكمة المتهمين جنائياً بتهمة نشر معلومات عسكرية من دون إذن، وإذا حالت عراقيل قانونية دون ذلك فإنه سيحولهم إلى المحاكمة الانضباطية داخل المؤسسة العسكرية. وتوقعت مصادر عسكرية أن تتشعب التحقيقات وتشمل المزيد من الجنود المشتبه فيهم.
وبدأت الشرطة العسكرية بتحقيقاتها في أعقاب نشر سلسلة لوائح عبر وسائل التواصل الاجتماعي تضمنت أسماء «قتلى العملية العسكرية». ووصلت هذه اللوائح سريعاً إلى مئات آلاف الإسرائيليين، بما في ذلك عوائل القتلى أنفسهم الذين يحرص الجيش عادة على إبلاغهم وفقاً لتدابير خاصة قبل الإعلان عن اسم الجندي القتيل. وكانت المصيبة بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين أن اللوائح تضمنت أسماءً لجنود تبيّن لاحقاً أنهم في عداد الأحياء، الأمر الذي جعل عوائلهم تعيش ساعات من العزاء.
وإلى جانب هذه اللوائح، اضطرت المؤسسة الإسرائيلية عموماً، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، إلى التعامل مع عدد لا يحصى من الشائعات المربكة.
ومن هذه الشائعات رسالة تحدثت عن إحباط عملية ضخمة في متنزه «بات يام»، وأخرى زعمت أن حماس تتوعد بهجوم غير مسبوق رداً على مقتل ابن رئيس حكومة غزة إسماعيل هنية، بالقصف الإسرائيلي، وثالثة تضمنت صورة لآلية مدرعة محترقة مع الإشارة إلى أنها الآلية التي لقي فيها جنود غولاني حتفهم في مواجهة الشجاعية، ورابعة عرضت صورة لتوابيت، في إشارة إلى معركة ستحصل في غضون ساعات، وخامسة تنعى أحد الضباط في لواء غولاني بالاسم، وهو نعي وصل إلى شقيق الضابط قبل أن يتبين لاحقاً أنه تعرض لإصابة استدعت إدخاله المستشفى.
وفي حالات أخرى أعلن المتحدث العسكري إصابة قذيفتين للمفاعل النووي في ديمونة، وتبيّن أن التغريدة نفسها قد نشرها مخترقون قد سيطروا على صفحة تويتر التابعة للمتحدث العسكري. كذلك قرأ إسرائيليون كثر على هواتفهم رسالة من صحيفة «هآرتس» عن إصابة قذيفة للمصانع البتروكيماوية في حيفا، ودعت إلى إخلاء المنطقة، قبل أن يتبين لاحقاً أن ذلك كان عملاً من منتحلين.
وبانتظار أن يطوّر الجيش والمؤسسة الرسمية الإسرائيلية الوسائل اللازمة لمواجهة التحديات التي تفرضها «لعنة النيو ميديا» على الإدارة الإعلامية للحرب، يبدو أن الجمهور الإسرائيلي سيبقى مشدوداً رغماً عنه إلى بيئة الاتصال المترابطة والسريعة والمباشرة التي يؤمنها الـ«واتس أب» وأشقاؤه رغماً عن الرقابة وضوابطها.
هتلر أيضاً كان طفلاً
إلى جانب تحولها إلى مصدر معتمد لتناقل المعلومات المحجوبة، تمثّل وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة رائجة لتعبير الإسرائيليين عن آرائهم الصريحة والمباشرة. ويمكن الاطلاع على عينة من هذه الآراء من خلال التعليقات التي نشرها قراء في موقع «واللا» على المجزرة التي قتل فيها أربعة أطفال فلسطينيين على شاطئ غزة في الأيام الأولى من العدوان. في هذه التعليقات كتبت شنيه مويئيل «قتل أولاد عربان يقلق مؤخرتي… من المؤسف أنه لم يقتل أكثر… كل الاحترام للجيش الإسرائيلي». كذلك كتبت ستاف سباج «الحقيقة أنها صور مفرحة، ولشدة ما تفرحني أودّ أن أشاهدها مرة بعد أخرى». أما شارون أفيشاي فكتبت «أربعة فقط؟ يا لها من بعصة. كنا نتوقع أكثر». وكتبت دانييلا ترجمان «يا لها من متعة.. يجب قتل الأولاد جميعاً»، فيما كتبت حاية حتنوفيتش «لا صور أجمل من أولاد عرب أمواتاً». وكذلك كتبت أورونا بيرتس «لماذا أربعة فقط؟». وكتبت راحيل كوهين «لا أؤيد قتل الأولاد في غزة، أنا مع أن يحرقوا جميعهم»، بينما علقت تامي مشعان بالقول «ليمت أكبر عدد من الأولاد».
وذكرت تقارير إعلامية إسرائيلية أن عبارة كُتبت على أحد الجدران عند مدخل بلدة نتيفوت تبرر مقتل الأطفال الفلسطينيين بالقول «هتلر أيضاً كان طفلاً».
صحيفة الأخبار اللبنانية –
محمد بدير