العرب يستجدون إسرائيل
د. مصطفى اللداوي:
هل بلغ بنا الذل والهوان أن نستجدي إسرائيل بعضاً من حقنا، وشيئاً من أرضنا، وأن نتمنى عليها أن تعيد إلينا بعض قرانا، وجزءاً من حوارينا وبساتيننا، وأن تمنحنا من الأرض ما تحب وترغب، وأن تتفضل علينا منها بما لا تريد أو تستبقي وتحفظ، ونبدي لها استعدادنا للتخلي عما تحب أن تستأثر لنفسها به، ولو كان بيتنا أو خدر نسائنا، أو مهاجع بناتنا وأخواتنا، أو مراتع طفولتنا ومرابع شبابنا، أو قبور آبائنا ورفاة أجدادنا، وأن نبقي لها المدينة التي ترى أنها جزءاً من ماضيها، وبقيةً من تاريخها، فما أعجبها من الأرض فهو برضانا لها، وما كرهته وعافته نفسها وكان ملعوناً في عقيدتها فنحن نقبل به، ونريحها منه، أرضاً وسكاناً، وإن اعترضها بناءٌ نهدمه، وإن عاكسها جدارٌ نسويه بالتراب، وإن انتقصها شئ نكمله، ومن رفض من أهلنا منحها ما تريد نقتله، ومن اعترض على القسمة نحرمه، ومن عارض العطاء نقاطعه.
هل بلغ بنا الهوان أن نحمل أكفاننا على أكفنا، وأن نسير بها إلى عدونا حفاةً، حاسري الرأس، مستسلمين خانعين، راضين بحكمه، موافقين على قضائه، فإن قتلنا فذاك قضاؤه، وإن عفا عنا وأكرمنا فهو أهل الجود والسخاء والكرم، نشكره ونقبل يده، نرفع ذيل ثوبه وننفض الغبار عن قدمه، ندعو الله له بالسلامة وطول العمر، ونسأله أن يحفظ عليهم كيانهم، وأن يبقي لهم بنيانهم، وأن يديم عليهم نعمه، وأن يسبغها ظاهرةً وباطنة، فهم أهل السمن والعسل، وأصحاب المن والسلوى.
هل بلغ بنا الهوان أن يرفض العدو ذلنا، وأن يشمئز من هواننا، وأن يشعر بالضيق من انحناء قامتنا، وخفوت صوتنا، وانكسار شوكتنا، وأن يتبرم من عبارات اعتذارنا، وكلمات أسفنا، ومظاهر حزننا، وأن يجرح كرامته وقوفنا على أعتابه، وانتظار رده وجوابه، وتوسل عطائه، واستدرار عطفه وتمني كرمه، فلا يعجبه منا التنازل، ولا يرضىه منا التخلي، فهو القوي الذي يمن، والحاكم الذي يعفو، والغني الذي يعطي، والجبار الذي يفتك، والقادر الذي يقتل ويخرب ويدمر، فلا حاجة له في عبدٍ ضارع، أو ذليلٍ خائف.
إنه يرى ذلنا، ويستشعر هواننا فيطالبنا بأن ننكر ذاتنا، وأن نخلع ردائنا، وأن ننزع عنا أجسادنا ورقة التوت التي بقيت، أو ورقة التين التي يبست، لئلا يبقى ما يسترنا، ولا ما يبقي على آدميتنا، وكأنه يطالبنا أن نعترف أننا لسنا نحن الند، ولا أصحاب الحق، فلا حق لنا فيما سيعطينا، ولا ملكية لنا فيما سيمنحنا، إنما هو عطاء الدولة اليهودية، التي يجب أن نعترف بها، وأن نشكر فضلها، وأن نكون درءاً لها، وحصناً يحميها من أنفسنا، وممن يروم بها من أبنائنا شراً، أو يفكر أن يلحق بها ضرراً، فهي مملكة اليهود، ووعد الله لهم المكتوب.
إنها بزعمهم دولة اليهود التي ينبغي أن تكون لهم خالصة وحدهم، فلا يساكنهم فيها أحد، ولا يشاركهم في ترابها بشر، ولا يكون لغيرهم فيها مقاماتٌ ولا مقدسات، ولا قبلة ولا صخرة، فلا يقبلون أن نقبل أيديهم حتى نعترف بهوية دولتهم، ولا يسمحون لنا أن نستمرئ ذلنا، وأن نبالغ في هواننا، حتى نقر لهم بأنها دولتهم اليهودية، وهي أرض أجدادهم، وملك أنبائهم، وهي مملكة أجيالهم.
من المسؤول عن هذا الذل، ومن الذي ارتضاه لنا، ومن قال لهم أن يتحدثوا باسمنا، وأن يرفعوا الراية البيضاء نيابةً عنا، وأن يعلنوا استخداءنا، وأن يقولوا للعالم أننا أخصينا رجالنا، وأعقمنا نساءنا، وأننا لم نعد نقوى على القتال، ولا الصبر على الحرب، ولا تحمل العذاب والمعاناة، من قال لهم أن أطفالنا قد تعبوا، وأن نساءنا قد لطمن الخدود، وشققن الجيوب، وتمنين على العدو أن يرحم رجالهن، وأن يستحي أولادهن، ومن قال لهم أن رجالنا قد أصابهم الجزع، وحل بهم الخوف، فخارت قواهم، وساخت أقدامهم، وارتجفت مفاصلهم، وتفككت عريكتهم، وانسدل على وجوههم نقاباً كانت تضعه نساؤهم.
ألم يقرأ الذين طرقوا أبواب أمريكا، ومرغوا أنافهم على أعتاب الكيان الإسرائيلي، منتظرين صدقاتهم، ومتحملين مَنَّهم وآذاهم، أن سيدهم خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، الذي شعر من الروم يوم اليرموك استخفافاً، وأحسهم منه يسخرون، وبجيشه يستخفون، وعلى دينه يتهكمون، وبرجاله يتربصون، وقد عرضوا عليه ليعود إلى مدينته ومضاربه، صرةً وكسوةً وطعاماً وعشرة دنانير، وله في العام المقبل مثلها، شرط ألا يقاتلهم، وألا يأمر جنده بمنازلتهم، ولكن خالد العزيز بدينه، والقوي بحقه، شعر بأنهم منه يضحكون، ومنه لا يخافون، فامتطوى صهوة جواده، ولوى عنقه وقد شد لجامه، وكز بكبرياءٍ على أسنانه، وأمر جنده بالهجوم، وخيالته أن تدهم، وما هي إلا ساعات حتى كان المسلمون يرفعون الآذان في جنبات الشام، ويصدحون بكلمة الله أكبر في كل مكان.
لماذا نسكت عليهم السبعة، ونقبل بهم وإن كانوا من الجامعة، ونسلم بما قاموا به وإن كان ذلاً، لماذا لا نرفع أصواتنا ونعلن رفضنا، وننكر فعلهم، ونثور على ذلهم، ونعلن البراءة منهم، ونتخلى عن درهمهم ودينارهم، فهم ليسوا منا ونحن لسنا منهم، وهم لا يمثلوننا، ولا يتحدثون باسمنا، ولا يعبرون عن مواقفنا، ولا يعكسون إرادتنا، بل لا يعرفون قدراتنا، ولا يقدرون بأسنا، ولا يعرفون أننا أبناء أمةٍ لا تعرف الضيم، ولا تستكين على الهوان، ولا تسلم بحقها، ولا تفرط بثوابتها، وهي حرةٌ أبداً لا تأكل بثدييها، ولا تقبل الدنية، ولا تفرط في ذاتها العلية، ولا تتنازل عن ثوابتها الأزلية، ولا تصعر خدها، ولا تخلع ثوبها، ولا تكسر سيفها، ولا تضرب قوائم فرسها، وهي لا تبيع أولادها من جوع، ولا تقتل نفسها من فقر، ولا تغلق أبوابها من خوف، ولا تقيم على الخسف يراد بها، كالأذلين عيرِ الحي والوتدِ.