العرب والأزمة السورية: سفر الخروج من الجغرافيا بعد التاريخ
صحيفة السفير اللبنانية ـ
مصطفى اللباد:
يتسمر المواطن العربي أمام شاشات التلفاز متابعاً أخبار الأزمة السورية، فينتقل بصره بين العواصم وتصريحات الرؤساء والمسؤولين، ويتابع النقاش حول الضربة الأميركية المرتقبة لسوريا وينشغل بحجمها ومداها وتوقيتها. وتتبارى وسائل الإعلام ـ على اختلاف توجهاتها وميولها – في نقل مشاهد القتل والتدمير على الأرض السورية، بحيث تغذي فيه صورة طرف واحد شرير يتحمل المسؤولية وحده عما يجري. وتوفر «وحدانية الشر» سهولة وسلاسة زائفة للتحليلات السياسية الرائجة، بحيث يخلد العربي إلى النوم وقد استكان، أو استنام، إلى تبرير أحد الأطراف لما يجري واستحقاق الطرف المقابل لكل ما يناله من عقاب. مؤيدو النظام السوري يتحدثون عن استهدافه بسبب تحالفاته الإقليمية، وعن أن الجماعات التكفيرية التي ترتع على الأرض السورية وتصفي المواطنين السوريين من المذاهب الدينية المختلفة، لا تعكس سلوكاً لحركة تحرر بأي حال من الأحوال – وهو جزء صحيح من الحقيقة-. أما خصوم النظام فيدللون بالتدمير الذي ألحقه النظام السوري بشعبه وبما يزيد عن مئة ألف قتيل، وقصفه للقرى والمناطق السورية طيلة سنتين ونصف سنة بالطائرات والدبابات والأسلحة المختلفة، – وهو جزء صحيح من الحقيقة أيضاً-. وبالتالي يخلص الطرفان المتصارعان إلى نتيجة، أن استمرار الحرب للقضاء على «الخصوم» هو حتمية لا فرار منها. ويستعر الجحيم أكثر فأكثر بالتنافس الإقليمي على سوريا انتصارا لطرف على آخر، بالسلاح والمقاتلين والأيديولوجيا وعشرات المليارات من الدولارات وبوسائل الإعلام المتناحرة، فتستمر آلة القتل والتهديم لأركان الدولة السورية في الدوران. وفي النهاية دخلت سوريا في دائرة جهنمية يدفع ثمنها السوريون بأرواحهم وبدولتهم وبأرض أجدادهم وبمستقبل أطفالهم، أياً كانت نتيجة التحارب الراهن.
سيناريو العراق مرة ثانية
تفلس ثنائيات الشرق التاريخية في تفسير الأزمة السورية، حيث يمتنع التصنيف الأحادي بين «الخير» و«الشر»، و«النور والظلام»، عن تشخيص الأزمة، لأن «الشرير» لا يمكن الإشارة إليه وحده مسؤولاً عن كل شيء. ومثلما أفلست ثنائيات الشرق في التفسير، فقد أخفق العرب في اجتراح «حل» للمأساة السورية واستفادت الأطراف الإقليمية غير العربية منها. هنا بالتحديد تتكرر مأساة العراق 2003: حاكم يضطهد شعبه ويقتله، بعد أن يصادر المجتمع ويهدر حريات مواطنيه ويهدد جيرانه، لا تتم إطاحته فقط، بل يتم تحطيم بلده العربي الكبير بمباركة وبتمويل عربيين، فتكون النتيجة المأساوية متمثلة في تقدم القوى الإقليمية لتستولي على قراره ولتهيمن على جغرافيته. تخلصت الأنظمة العربية من النظام العراقي السابق، وتسمّر العربي مشدوهاً أمام الدبابات الأميركية وهي تتقدم صوب عاصمة الرشيد، قبل أن تعود وتسلم قرارها فعلياً لإيران. واليوم يترقب العرب ضرب واحتلال عاصمة الأمويين، بغطاء وتمويل عربيين، في ظروف مشابهة لما جرى قبل عشر سنوات، والأرجح أن ينتهي فصلها الأول وشمال سوريا في عهدة الأتراك. التاريخ يعيد نفسه ولا عبرة أو اعتبار، مع اختلاف بسيط بأن الطرف الحليف لأميركا في ضربته العسكرية المرتقبة على سوريا هو فرنسا، لما لها من مصالح تاريخية في سوريا، فيما كانت انكلترا الشريك في احتلال العراق للسبب نفسه.
إيران ومحورها
في الوقت نفسه، تتمدد إيران على الجغرافيا العربية رافعة لواء «الممانعة»، على صهوة جوادها العربي «سمند» الذي استدعته من مستودع أساطيرها القومية («شاهنامه» سعدي الشيرازي)، وهو يرتع في الجغرافيا العربية التي تهيمن طهران على قرارها، بشعاراتها الثورية التي لا تخلو من حمولة طائفية. وكأن طهران تريد الانتقام لمعاركها التاريخية مع العرب في «جلولاء» و«حلوان» و«القادسية» التي جرت قبل أربعة عشر قرناً مضت، فتعيد كتابة التاريخ بأثر رجعي.
لم يعرف المحور الإيراني حتى الآن دولة عربية منضوية فيه تملك مؤسسات حقيقية، فالهدف الأساس هو رص العرب باصطفاف أيديولوجي – طائفي على قياس مصالح إيران القومية. تدير إيران معاركها الإقليمية للنفوذ والسيطرة على الأرض العربية بعيداً عن الهضبة الإيرانية، فتوسع رقعة نفوذها راهناً بشكل يضاهي عصر «قوروش الكبير»، بمزيج مدهش من الدهاء الإيراني والغفلة العربية. وحين يتطلب طموحها الإقليمي أثماناً لقاء ابتزاز واشنطن وجرجرتها للاعتراف بها مرجعية إقليمية، فالأرض العربية جاهزة والدم العربي حاضر وشعارات «الممانعة» قابلة لإعادة الإنتاج حسب مقتضيات الأحوال. هكذا استبيح العراق تحت شعار «الممانعة» بعد احتلاله أميركيا وتهديم الاحتلال لدولته ومؤسساته، ليصبح مرتكز الانطلاق لدور إيران الإقليمي. وعلى هذا المنوال تستباح سوريا ويتهدم ما تبقى من مؤسساتها راهناً، ويقتل شعبها جماعياً منذ سنتين ونيف بغطاء ممانعاتي كثيف، للحفاظ على إطلالة الهضبة الإيرانية على البحر الأبيض المتوسط. باختصار، استحالت الأوطان العربية وحواضرها الكبرى في بغداد ودمشق أوراقاً للمقايضة مع «الشيطان الأكبر»، لقاء الدور الإقليمي والبرنامج النووي.
السعودية
في موازاة ذلك، تموّل الرياض الحرب الأهلية في سوريا على طيف واسع من المجموعات المسلحة الجهادية والتكفيرية في الداخل وعلى الواجهات السياسية بالخارج، وعينها على النفوذ الإيراني المتفاقم. وبسبب غياب المشروع الإقليمي والتمسك بأهداب الأمر الواقع، تعلن استعدادها لتمويل الضربة الأميركية المرتقبة رغبة في إسقاط نظام بشار الأسد بغرض تقليص النفوذ الإيراني في المشرق العربي وتدعيم وضعها كلاعب أوحد. فشلت محاولة الرياض سحب بشار بعيداً عن «محور الممانعة»، فكان اجتماع الرئيس السوري والعاهل السعودي في لبنان العام 2010 آخر المحاولات العربية لتغيير مواقفه بالترغيب. ومثلما فعلت الرياض في العام 2003 تفعل اليوم، بحيث تصل الخصومة مع نظامي البعث في العراق وسوريا إلى حد فرد الغطاء على إسقاط النظامين، حتى ولو كان الثمن تدمير البلدين العربيين الكبيرين. وفي ظل التدافع الإقليمي على بلاد العرب المبتلين بحكامهم الكيماويين، يتم تطييف القضايا الكبرى، وتصبح الطوائف عنواناً للتحالفات والمادة اللاصقة للاصطفافات، فتتعمم المأساة-الملهاة؛ حتى تصير «جبهة النصرة» عنواناً لمقارعة النظم الباطشة!
يمثل السلوك العربي الرسمي بتسهيل الحرب على سوريا وبتمويلها تطبيقاً حرفياً لمقولة «اليد التي تؤلمك اقطعها»، بحيث استبدلت السياسة وتوازناتها الإقليمية إلى ساحة لتسويق الولاءات وتمويل الحروب وإسقاط الدول والمجتمعات، تحت شعار إسقاط النظم الديكتاتورية التي تقتل شعوبها. وتظهر تجربة العراق الماثلة في الأذهان أن التضحية تكون في النهاية على حساب الشعوب والجغرافيا، فتتجدد ساعتها المراثي العربية مرة بعد أخرى.
تركيا وإسرائيل ومصر
أما تركيا التي خسرت صدقيتها بالكامل في «الربيع العربي»، فقد تحولت بغير رشاقة في الحراك السوري، من طرف إقليمي يبني قوته الناعمة بتؤدة، إلى طرف يتحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» ويتشارك في أجندة إقليمية واحدة مع قطر. وإذ أخفقت تركيا في الحصول على حصتها من الكعكة العراقية بسبب الشطارة الإيرانية والمقاومة الكردية والعامل الطائفي، فإنها تمني النفس بهيمنة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً على الشمال السوري المواتي جغرافياً وطائفياً. وتركيا التي عارضت طيلة السنوات السبع الماضية في خطابها السياسي التدخل من خارج المنطقة في شؤونها، لكي تلعب هي دور المايسترو، عادت بعد فشلها وظهور قدراتها المحدودة في الأزمة السورية لتستدعي التدخل الأجنبي كي يمهد طريق المنافسة الإقليمية لمصلحتها. هكذا تحوّل رأس النظام السوري من صديق تفرد له طاولة العشاء وعقيلته على ضفاف البوسفور مجالساً أردوغان وعقيلته على خلفية مقامات وقدود حلبية مطعمة بنكهة عثمانية، إلى عدو تستجلب له الجيوش بعد أن «تحول» إلى ديكتاتور باطش.
قبلت مصر الحاملة لأثقال التاريخ والدور الذي كان، أن تغض الطرف عما يجري والمشاركة في قرار مجلس الجامعة العربية الذي يغطي ضرب ما كان يوماً الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة. وعين السلطة الجديدة في القاهرة على خاطر دول الخليج العربية التي تدعمها بالأموال، إنقاذا لاقتصادها المنهار وغطاء سياسياً لسلطتها الجديدة بعد إسقاط «الإخوان المسلمين» وممثلهم في قصر الرئاسة. ومثلما كانت الفوائض النفطية ثمناً لغض النظر عن ضرب العراق في السابق، تعود بذاتها تلك الفوائض لأداء ذات الدور في الحالة السورية. ويغيب عن حساب القاهرة أن تقسيم سوريا – لا قدر الله – سيعني انتهاء لأية أدوار مستقبلية مصرية من أي نوع، وأن مصير سوريا بحكم الجغرافيا والتاريخ هو مصير مصر الاستراتيجي، بحسب نواميس الجغرافيا والتاريخ، قبل العواطف وقبل العروبة وقبل نظرية الأدوار الإقليمية حتى. وستستمر كل الأطراف المتناحرة في دمغ خصومها بالعمل على خدمة الأجندة الإسرائيلية، والحال أن كل السيناريوهات الممكنة للأزمة السورية تبدو مواتية لمصالح إسرائيل. استمرار القتل وتهديم ما تبقى من الدولة السورية هو مصلحة إسرائيلية بامتياز، وتقسيم سوريا سيكون ذروة التتويج للحلم الصهيوني بدول الطوائف والمذاهب في المنطقة. وحتى الحل السياسي الأفضل على قاعدة «جنيف 2» عبر إعادة تشكيل الدولة السورية لتصبح على شاكلة مثيلتها اللبنانية، مؤات لإسرائيل أيضاً.
سفر الخروج
سيخرج العرب، «ممانعين» و«معتدلين»، خاسرين من الأزمة السورية وسيناريوهاتها المختلفة، التي لا يملكون في الواقع من أمرهم وأمرها شيئاً. خرج العرب من التاريخ سابقاً، ويبدون اليوم على اختلاف اصطفافاتهم وهم في وارد الخروج من الجغرافيا أيضاً. فلنتسمّر إذاً أمام شاشة التلفزة لنسمع قريباً أزيز الطائرات الأميركية ونراها وهي تلقي حممها على السوريين ـ مؤيدين ومعارضين للنظام- وليفكر بعض «مفكري» العرب لماذا لم يخترع العلم الحديث بعد خاصية للطائرات الأميركية يمكنها أن تسأل المقتول، أو مشروع القتيل، عن انتماءاته الطائفية قبل أن تسقط قنابلها وحممها القاتلة عليه.