العالم يقدّم إلى واشنطن سوق العملات الرقمية على طبَق من ذهب!
موقع قناة الميادين:
نحن أمام مشهد شديد التعقيد كان يمكن تجنُّب تداعياته السلبية المحتملة لو أن أقطاباً عالميين قرّروا التعامل بواقعية مع سوق العملات الرقمية.
يُسجَّل للولايات المتحدة الأميركية أنها لم تحذُ حذوَ الصين في التشدّد تجاه أسواق العملات الرقمية، ولم تلجأ إلى إجراءات قمعية ـ حتى الساعة ـ الأمر الذي أدى عملياً إلى تحقيقها أرباحاً ضخمة غير منظورة في سوق يبلغ حجمها، حتى ساعة كتابة هذه المقالة، 2.31 تريليون دولار، يتكسَّب منها 27 مليون أميركي، من أصل 300 مليون متداوِل حول العالم.
بعد أيام قليلة، يَمْثُل رؤساء تسع منصات تداول بالعملات الرقمية المشفَّرة أمام لجان الكونغرس للإدلاء بشهاداتهم بشأن آليات عمل هذه العملات، استجابة لمساعي السلطات الأميركية لوضع معايير للتداول.
على أن أخطر ما تسعى إليه واشنطن، في خطوتها هذه، هو سَن قوانين تُجبر منصات التداول على تقديم بيانات عن هويات المتداولين. وهو ما يعني عملياً ضرب المفاهيم الأصلية التي قامت عليها تقنية بلوكتشين ـ التي تستند إليها هذه العملات ـ وهي اللامركزية والخصوصية والأمان. فماذا تعني الخطوة الأميركية؟ وما هو مصير سوق العملات الرقمية التي تشهد حالياً خسائر قياسية؟ ولماذا ارتكبت بكين هذه الخطيئة بحق اقتصادها والعالم بأسره؟
هل يمكن أن تخسر العملات الرقمية كل قيمتها؟
قبل أسابيع قليلة، سُألت في أثناء مداخلة تلفزيونية عن احتمال انهيار أسعار العملات الرقمية المشفَّرة وبلوغ بيتكوين وأخواتها عتبة الصفر، بما أنّ هذه العملات لا تمتلك قيمة اعتبارية فعلية، ما خلا ما اتفق عليه ملايين المتداوِلين لها!
في الواقع، السؤال مثار جدل عميق بين الاقتصاديين أنفسهم. فبعد أن توقفت الولايات المتحدة عن ربط قيمة الدولار باحتياطي الذهب، باتت عملياً العملة المسيطرة على الاقتصاد العالمي من دون قيمة فعلية، ما خلا ما اتفق عليه الناس اعتبارياً!
قد يناقش الاقتصاديون حقوق السَّحب من احتياطي صندوق النقد الدولي وحجم التداول بالدولار الأميركي في التجارة العالمية، وحجم الاقتصاد الأميركي نفسه، على أنها أسباب مباشرة تعطي الدولار الأميركي قيمته، لكنّ ما يُبقي العملة الخضراء في الصدارة هو ببساطة عدم وجود مصلحة لأي دولة في تغيير “عنيف” لموازين القوى الاقتصادية في العالم.
بمعنى آخر، تستمدّ العملات الرقمية المشفَّرة حالياً قيمتها تماماً من المعيار نفسه الذي يستمد منه الدولار قوته، بغضّ النظر عن الفوارق في العوامل المؤثّرة في الإثنين: لقد قرر 300 مليون إنسان في العالم ـ أو 3.9 % من سكان العالم هم من يتداولون العملات الرقمية المشفّرة حالياً ـ إضفاء قيمة اعتبارية على هذه العملات والتعامل بها وفق فائدتها النظرية، بالنسبة إلى مستوى الحلول التي توفّرها. فمثلاً، هناك عملة خاصة بضبط عمليات الاتصال بين أجهزة إنترنت الأشياء Internet of Things، وعملة خاصة بالأفراد المستقلين، والذين يعملون على نحو حر لضمان حصولهم على حقوقهم، وعملة تمنع سرقة الأفكار وتحفظ حقوق الملكية لأي فرد كتب قصاصة من ورق، وعملة “ريبل” Ripple تتيح تحويل الأموال بسرعة قياسية وتكلفة شبه صفرية، و”كاردانو” Cardano تعزز العمليات داخل شبكات بلوكتشين نفسها بطاقة أقل وتكلفة منخفضة. أمّا “ستيلار” XLM فتندمج في “بايبال” Paypal لتقديم خدمات مصرفية رخيصة، بالإضافة إلى آلاف المشاريع التي تدعمها أكثر من 11 ألفا و400 عملة رقمية مشفّرة متوافرة حالياً في سوق التداول.
في الوقت الراهن، يغلب اللون الأحمر على جميع مؤشرات التداول في سوق العملات الرقمية بفعل خسائر بلغت حتى ظهر السبت الفائت نحو 500 مليار دولار أميركي، بينها أكثر من 100 مليار دولار خسرتها “بيتكوين” فقط في قيمتها السوقية، بعد أن انخفض سعرها، في غضون أسابيع قليلة، من 67 ألف دولار تقريباً إلى 48 ألف دولار.
وعلى الرغم من هذا التراجع المخيف، والذي يعزوه البعض إلى متحور “أوميكرون” وارتفاع معدلات التضخم الأميركية وأزمة سلاسل التوريد عالمياً، فإن خبراء التداول المعتادين على هذا النوع من التأرجح في الأرباح والخسائر لا يعبّرون، في معظمهم، عن قلق استثنائي، بل ينتظرون ارتفاعاً مشهوداً مع بداية عام 2022، وخصوصاً أن “بيتكوين” تشهد تراجعات كبيرة قبل صعودها إلى مستويات قياسية عادة، علماً بأن توقعات بلوغها قمة مئة ألف دولار في غضون عام لا تزال سارية.
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ “بيتكوين” نجت في السنوات السابقة من انهيار 84.5% من قيمتها، ونجت مرة أخرى من انهيار 63%، ومرة ثالثة من انهيار 53%. ويمكن للمراقبين الاستشهاد بهذه المحطات للتفاؤل في المستقبل.
كنا لنطمئن إلى هذه الفكرة لولا عوامل ثلاثة رئيسة حدثت أخيراً، وتؤثّر بصورة دراماتيكية في مستويات المقاومة للعملات الرقمية المشفّرة بأسرها:
– القيود الصارمة التي فرضتها الصين على تداول العملات الرقمية المشفَّرة، نتيجة أسباب ترتبط بالهواجس الأمنية، كما بمساعي بكين لتعزيز عملتها الرقمية الحكومية.
– اقتراب إصدار الولايات المتحدة تقريرها الخاص بشأن فائدة إصدار عملة رقمية خاصة بها تدعم الدولار الأميركي وتعزّز مكانته في العالم.
– سعي الولايات المتحدة لـ”ضبط” سوق التداول، عبر إصدار قوانين للحصول على بيانات المستخدِمين، في خطوة شديدة الخطورة، لأنه لا يمكن التنبؤ بردة فعل السوق حيالها.
نحن أمام مشهد شديد التعقيد إذاً، كان يمكن تجنُّب تداعياته السلبية المحتملة لو أن أقطاباً عالميين قرّروا التعامل بواقعية مع سوق العملات الرقمية المشفَّرة بدلاً من قمعها، من أجل المحافَظة على مكاسب محلية ضيقة. واللافت هنا أن دولاً تتّجه إلى أن تحظى بالمراتب الأولى في المستقبل القريب على صعيد عدد السكان، كالهند ونيجيريا، باتت مأمناً لملايين المتداولين. ففي الهند وحدها يبلغ عدد المتداولين للعملات الرقمية نحو 100 مليون. أمّا بعض الدول، ذات الاقتصاد الصغير، كالسلفادور، فقد عمدت إلى شراء مزيد من عملة “البيتكوين” عند انخفاض سعرها، بعد أن تبنّت هذه العملة قانونياً في أيلول/سبتمبر الماضي، واعترفت بها عملةً رسمية قابلة للتداول في البلاد.
وما بين دول قررت سلوك القمع وأخرى عاجزة عن وضع معايير تنظّم التداول في سوق العملات الرقمية المشفَّرة، خلت الساحة أمام الولايات المتحدة الأميركية (27 مليون متداوِل)، ومعها بريطانيا (3.3 ملايين متداوِل)، و”إسرائيل” (109 آلاف متداوِل، فضلا عن حيازة بضعة إسرائيليين حصة الأسد في عملات رئيسة)، ونيجيريا (13 مليون متداول)، والهند (100 مليون متداول)، وأوكرانيا (5.5 ملايين متداوِل)، من أجل السيطرة على سوق اقتصادية تحاكي المستقبل وترسم ملامحه.