الصين الجديدة… قلب العالم الجديد
جريدة البناء اللبنانية-
هشام الهبيشان:
في البداية، لا يمكن إنكار حقيقة أنّ رعاية الصين «للمصالحة التاريخية» بين طهران والرياض والتوصّل بين الدول الثلاث إلى اتفاق ينص على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وإعادة فتح سفارتهما، خلال مدة أقصاها شهران، بالإضافة لتضمن الاتفاق على احترام سيادة الدول وعدم التدخل بشؤونها الداخلية، ما هو إلا حدث سياسي تاريخي بارز، وهنا برز واضحاً في الفترة الأخيرة وبالتزامن مع هذا الاتفاق وفي خضمّ الصراع الأميركي الغربي ـ الروسي ـ الصيني، حول الملف الأوكراني وملف تايوان، مدى التقارب بالمواقف السياسية والأمنية، بين النظام الرسمي الروسي والنظام الرسمي الصيني، وذلك ظهر جلياً من خلال دعم صيني مستمر للروس بخصوص مطالبهم الأمنية وصراعهم المفتوح مع الأميركي، وبالتزامن دعم روسي للموقف الصيني ببحر الصين الجنوبي وملف تايوان وغيره من الملفات، فهذا الدعم وتقارب الآراء وثبات الموقف الروسي والصيني بخصوص رؤيتهما لسبل إنهاء ملفات الصراع الدولية والإقليمية والتي لا يغيب عنها بالمطلق ملفّ المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، يؤكد أنّ هناك حلفاً دولياً بدأت تتبلور معالمه وركيزته الأولى هي القوتان العسكرية الروسية والاقتصادية الصينية، وهذا الحلف بدأ فعلياً يستقطب قوى إقليمية، لتعزيز قوته وعلى مختلف الأصعدة.
وهنا، وليس بعيداً عن كلّ ما نتحدث عنه، فقد جاءت موافقة السعودية على الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين بصفة «شريك للحوار»، لتعطي مزيداً من الإشارات الجديدة إلى تزايد روابط المملكة الخليجية مع البلد الآسيوي العملاق، فـ الصينيون اليوم بدورهم، أثبتوا للجميع أنهم أصحاب الكلمة العليا والفصل في الملف الاقتصادي العالمي، فهم لم يرضخوا منذ سنوات لمجموعة ضغوط ومساومات من أجل تخفيض صادراتهم الاقتصادية التي اكتسحت العالم، مع العلم أنّ للأوروبيين والأميركيين تجارب كثيرة في مسار المساومات مع الصينيين بخصوص التنازل للأوروبيين وللأميركان عن جزء من حصتهم في السوق العالمية، وهناك أوراق مساومات طرحها جون كيري وجو بايدن وجون ماكين وترامب للتفاوض مع الصينيين في مراحل زمنية مختلفة، ولكن صمود الموقف الصيني، وثبات موقف بعض القوى والنخب الرسمية والاقتصادية والشعبية والسياسية داخل الصين، هو من أجهض في الكثير من المراحل أوراق المساومات الأميركية ـ الأوروبية التي كانت تُقدّم للصينيين، والتي كانت تتزامن في الكثير من مراحلها مع اشتداد موجة الضغوط الأميركية الأوروبية على الصينيين بخصوص ملفي بحر الصين الجنوبي وتايوان، وما صاحب كلّ هذا من موجة عقوبات اقتصادية على الصينيين ومن خلف الكواليس.
وفي وقت كثر الحديث عن مستقبل وطبيعة العلاقة بين القوة الصينية الصاعدة وبقوة إلى مصاف القوى العظمى، وبين السعودية في المقبل من الأيام، بعد تشكيك البعض بها وبطول مدتها الزمنية، جاء اتفاق شركة أرامكو السعودية مع الصين على بناء مصفاة للنفط ومجمع للبتروكيماويات في شمال شرق البلاد، لينهي الأحاديث المشككة بهذه العلاقة، والمشروع المشترك بين أرامكو وشركتين صينيتين هما «نورينكو» العملاقة و «بانجين زينتشين» الصناعية، قد تصل كلفته إلى 12.2 مليار دولار أميركي، بحسب مجموعة «بانجين زينتشين»، تزامناً مع غضب غربي وخصوصاً أميركي من تحركات الصين بالمنطقة العربية وجوارها الأقليمي، وتصاعد حدة الاتهامات المتبادلة حول ملفات عدة، وبعد هذا الصعود القوي للصين اقتصادياً وعسكرياً.. ومحاولات بايدن الحثيثة لاحتواء هذا الصعود الصيني، عبر تضييق الخناق على الصين اقتصادياً وعسكرياً مع محاولات التقرّب من تايوان وتهديد مبدأ «صين واحدة»، والتوسع بالتحركات العسكرية الأميركية والغربية ببحر الصين الجنوبي والجنوبي الشرقي.
الصينيون بدورهم كانوا يدركون حجم الخطورة التي ستفرزها هذه التحركات الصينية في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، فهذه الضغوط الأميركية الأوروبية، متوقعة وبقوة، وخصوصاً بعد تجميد الحلول السياسية «مرحلياً» بخصوص ملفي بحر الصين الجنوبي، فالصينيون يدركون أنّ النظام الأميركي الرسمي وحلفاءه في الغرب وفي المنطقة يستعمل سلاح الممرات البحرية والمعابر الدولية ومناطق النفوذ والتهديد الأمني كورقة ضغط على النظام الرسمي الصيني، للوصول معه إلى تفاهمات حول مجموعة من القضايا والملفات الدولية العالقة بين الطرفين ومراكز النفوذ والقوة والثروات الطبيعية وتقسيماتها العالمية ومخطط تشكيل العالم الجديد وكيفية تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الكبرى على الصعيد الدولي، وعلى رأس كلّ هذه الملفات هو الوضع ببحر الصين الجنوبي، ومن هنا أدرك الصينيون مبكراً أنّ أميركا وحلفاءها في الغرب يحاولون بكلّ الوسائل جلب النظام الرسمي الصيني وحلفاءه إلى طاولة التسويات المذلة، ليتنازل الصينيون وحلفاؤهم عن مجموعة من الملفات الدولية لمصلحة بعض القوى العالمية وقوى الإقليم الآسيوي.
ختاماً، يمكن القول إنّ جميع أوراق المساومات التي طرحها الأميركيون والأوروبيون، أو التي قد يطرحونها مستقبلاً للضغط على الصينيين ودفعهم إلى التخلي عن طموحاتهم بالصعود إلى مصاف القوى العظمى قد باءت وستبوء بالفشل، فمجموع المؤشرات الدولية والإقليمية تؤكد أنّ الصينيين هم من يفرضون اليوم رؤيتهم الاقتصادية على الجميع «لأنها هي الرؤية الأنجع والأفضل»، وهذا ما يؤكد أنّ الصينيين عائدون وبقوة إلى مصاف الدول العظمى لصناعة عالم متعدّد الأقطاب…