الشهيد الأمريكي
موقع الزكية ـ
هادي قبيسي*:
قدمت المقاومة ثقافة متكاملة نتجت عن اختراقها لمجموعة من الحواجز المستحيلة في زمن الضعف العربي والإسلامي، مستلهمة من ثورة الإمام الخميني زخماً وروحاً وخطاباً شاملاً حدد هويتها وتموضعها الوطني والإسلامي إلى حد بعيد، ومن أهم الإختراقات كان إمكانية النصر على إسرائيل، الذي تحول من دائرة المستحيل إلى دائرة الممكن المعلوم السبل والمقدمات.
ألحق الإمام الخميني النصر ببناء منظومة لحماية المجتمع معنوياً ومادياً بعد أن كان مستباحاً من السلطة، واعتبر أن الإنتصار الروحاني والتحول الذي حصل في القلوب والمعنويات أهم من النصر نفسه، فهناك النصر السياسي وهناك الإنتصار القيمي المتعالي، فالأول وسيلة والثاني هو الغاية الحقيقية التي يشكل استمرار تمثلها والحفاظ عليها قيمة أهم من النصر نفسه حسب تعبير الإمام.
التجربة الجديدة للمقاومة في مواجهتها مع الحركة “الجهادية” التكفيرية ستضيء على قيم جديدة كامنة، ستشرق من خلال الصدام مع تيار يحاول رأب صدع الشعور بالدونية تجاه الآخر المختلف المنتصر على إسرائيل، مستعيناً بثقافة المقاومة نفسها، بمفاهيمها ولغتها، بل مستعيراً رزمة من أناشيدها التي شكلت فن التعبئة المعنوية في بداياتها، والتي حفرت في وعيه عميقاً رغم مرور أكثر من عقدين على إصدارها، ليكون خصماً شبيهاً ناهباً لثقافة الآخر القابع في المتراس المقابل، فلا ضير لديه، حيث إنه غداً سيقتل السلفي الجهادي القابع في الخندق نفسه معه وإلى جنبه.
التشابه بين المقاومة وعدوها التكفيري في مجموعة من السلوكيات ناتج عن التأثر الكبير بالإنتصار الأول للمقاومة الإسلامية على إسرائيل وما ساقه من محاولة إعادة انتاج عوامل النصر العسكري، هذا التشابه سيضيء على فرادة عميقة للمقاومة هي العمق المعنوي والإنتصار القيمي الذي لا يتيسر إلا بنقاء الوسيلة والبصيرة الصافية، فلا يمكن تحقيق انتصار قيمي وإزاحة ستار الظلم من خلال استخدام وسائل معتلة وسقيمة روحياً وأخلاقياً، كما لا يمكن تحقيقه من خلال الوقوف في خندق واحد مع مهندس الظلم والشيطان الأكبر، وفق بصيرة زائغة تبرر استغلال العدو والتعامل معه بدلاً من الصديق، بررها الشعور بالعزلة والغرق في الغيتو السلفي، بحيث صار الحل الوحيد التحالف مع عدو الأمة. هنا “الجهاد/ التضحية / الشهادة” تكون في خدمة استمرار وتضخم حالة الظلم لأنها فقدت النقاء والبصيرة، وهذا أمر تكرر كثيراً في تاريخ الشعوب المسلمة.
تاريخيًا قاتل المسلمون في الفتوحات واستشهد كثيرون في تلك المعارك. وكانت النتيجة قيام واستمرار حكومات سلطوية ظالمة تعاون بعضها مع العدو، وفي تلك المعارك كان عنصر التعبئة إسلاميًا روحيًا عنوانه التضحية والشهادة في سبيل الإسلام، بناءًا على الثقافة العامة للمجتمع، حيث حافظت الحكومات على شعار الاسلام ومظاهره الكثيرة واستخدمته لصالحها، دون أن يستطيع جمهور “المجاهدين” التمييز بين الإسلام الظاهري والحقيقي، وقد استطاعت السلطة بذلك استخدام “المجاهدين في سبيل الله” لقتال الإسلام الحقيقي وخنقه ومحاصرته.
“الشهيد” الذي يقدم نفسه اليوم في الخندق التكفيري، هو شهيد يضحي بنفسه لأجل مصلحة سكان نيويورك وواشنطن، لأجل مزيد من رفاههم وتطور أدوات تسلطهم على الطبيعة والمجتمع، هو شهيد أمريكي في الحقيقة، مثل الذين قدموا أنفسهم لأجل نفس الهدف خلال حرب فييتنام، حيث “استشهد” أكثر من 60 ألف “مجاهد” في سبيل الحرب على الشيوعية والحفاظ على نمط ومستوى العيش في أمريكا، مع فارق وحيد، أن “الجهادي السلفي” يظن أن دمه سيراق لأجل حفظ مصلحة أبناء الغيتو السلفي، وهو في الحقيقة، وحتى لو أتيح له الإنتصار في الميدان، فلن يكون نتيجة كل هذا “الجهاد” سوى المزيد من الظلم والدمار والإقتتال على الغنائم والزعامات، الإقتتال الذي لا يتوقف حتى في لحظات الحرب والهزيمة، فكيف في زمن توزيع الغنائم والإنتصارات.
قيمة المقاومة ليست في النصر العسكري ولا في إمكانية التضحية والبذل فحسب، فهذا هو البعد الأول في منظومة قيم المقاومة، والبعد المتعالي الآخر الذي سيشرق من بين ركام المعركة القائمة، هو النصر القيمي والمعنوي الذي يعكس نقاء وبصيرة المساهمين في النصر العسكري، هنا يتميز الشهيد الأمريكي عن الشهيد الإسلامي.
*كاتب وباحث