الرجل الأبيض في السودان
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
يمكن للمرء بكثير من الاطمئنان إلى دقة الكلمات وصحة القول، أن يجزم أن كل مشاكل قارة أفريقيا تتشابه، وكل أزماتها وصراعاتها الداخلية تأتي كنتيجة منطقية لدول فاقدة للتوازن، وشعوبها تعيش أزمة هوية، وأزمة شرعية لأنظمة حكمها، فكلها –تقريبًا- حصلت على استقلالها بعد منتصف القرن العشرين، وبالتالي فإنها حديثة عهد بالاستقلال والحكم الوطني، وحكوماتها بقايا متخلفة من أزمنة غابرة، قبلية أو عسكرية أو عقائدية، وكلها لا تمتلك الحد الأدنى من القيم العقلانية والرشيدة للنخب والطوائف القريبة من مراكز السلطة والقرار.
إضافة إلى هذا كله، فإن الفساد هو العنوان الذي يجري تصديره عن القارة وحكوماتها، عمود الخيمة للحكام والطامعين في كراسي الحكم على السواء، فالقارة السمراء بمواردها الهائلة، وأغلبها غير مستغل، جائزة ثمينة للملاعين من أبنائها، كما كانت فرصة للمغامرين الأوروبيين من قبل، والصراعات العسكرية والأهلية التي يشعلها أمراء الحروب على امتداد دولها تبحث دائمًا عن نصيب في كعكة الموارد والثروات والعقود مع الشركات الغربية.
لكن، هل هذه هي مشاكل القارة وحدها، الفساد وما يرتبط به من نفي أية آمال لقيام حكم وطني يعيد بناء الهياكل المشوهة الموروثة من العهد الاستعماري؟ في الحقيقة إن الاستعمار الغربي لم يغادر القارة أبدًا، حتى حين سحب قواته العسكرية فإنه موجود، فاعل ومتغلغل في كل تفصيلة، ويمكن التسليم بأن الأزمة تنبع من عين واحدة، هي العين الأوروبية السامة.
في العام الماضي، 2022، سلمت بلجيكا ما تبقى من رفات القائد الكونغولي باتريس لومومبا، بعد 61 عامًا على اغتياله على يد فرقة عسكرية بلجيكية، في واحدة من أبشع قصص التدخل الغربي في القارة المسكينة، وأكثرها ترويعًا في تاريخها، حيث تدخلت دولة بشكل مباشر لتدمير أول محاولة وطنية للبناء الحقيقي، وأقدمت في فجور على استباحة مستقبل شعب كامل، ومصادرة حقوقه وأحلامه.
كانت الكونغو تعرف تحت الحكم البلجيكي بأرض الأيادي المقطوعة. كانت المستعمرة الأفريقية الغنية ملكية خاصة للملك ليوبولد، والذي كان يستعمل أقسى أشكال التطرف لنهب ثروات البلد، ويجند المواطنين لجمع المطاط، ومن لا يتمكن من جمع الكمية المطلوبة، كانت تقطع أيادي أطفاله أمامه بواسطة جنود الجيش البلجيكي، إضافة إلى التطهير العرقي الواسع لتفريغ البلد من سكانها، والإبقاء فقط على ما تحتاجه حقول ليوبولد للعمل.
قضى تحت الاحتلال البلجيكي 7 ملايين شخص، وربما أكثر، فالعدد في أفريقيا لا يهم، وبلجيكا دولة متحضرة لن تجد إدانة من شركائها وأصدقائها في الغرب المتحضر، والاهتمام أو الضوء الذي يسلط على المأساة الإنسانية السمراء ليس كافيًا للحشد والتعبئة وتعظيم رصيد الغضب ضد الأوروبيين.
في النهاية اضطرت بلجيكا لحمل عصا الاحتلال المباشر والرحيل، فقط في عام 1960، لتقف الكونغو لأول مرة أمام تحدي إنشاء نظام حكم وطني يستطيع الاستفادة من الموارد الهائلة في البلد، ويحقق لأبنائها قدرًا معقولًا من التنمية، علها تلحق بقطار العصر الحديث، حتى لو كان العربة الأخيرة في القطار الأخير.
استقلت الكونغو رسميًا في 30 حزيران/ يونيو 1960، وألقى لومومبا خطابًا في حضور ملك بلجيكا بودوان يعرف بخطاب “الدموع والدم والنار”، ليدرك الأوروبي أنه أمام رجل يريد استقلالًا فعليًا واستعادة لموارد البلد المنهوب من الشركات والمنظمات البلجيكية العاملة فيه، ويتقرر على الفور اغتياله، بعد تدبير سلسلة من القلاقل والصراعات العسكرية في الكونغو.
قال لومومبا: “إذا مت فسيكون السبب أن أبيض قد سلّح أسود”. وحدث ما توقعه المناضل الشاب، فقد قام رئيس أركانه موبوتو سيسي سيكو بتسليمه إلى تشومبي، أحد أمراء الحرب، الذي سلمه بدوره إلى الجيش البلجيكي، وفي 17 كانون الثاني/ يناير 1961، نفذت فرقة قتل بلجيكية من الشرطة والجيش الإعدام في الثائر الشاب، وجرى بعدها إذابة جسده في الأحماض، واحتفظ ضابط الشرطة البلجيكي جيرار سوتي، أحد أفراد فرقة الاغتيال بواحد من أسنان المناضل الكونغولي، حتى سلمتها بلجيكا قبل شهور قليلة إلى بلاده، ليرقد أخيرًا في قبره.
لم تتوقف محاولات بلجيكا والغرب لإعادة السيطرة على الكونغو. في عام 1965، اندفع موبوتو سيسي سيكو، بدعم أميركي هائل، لينفذ انقلابًا عسكريًا ويجلس على كرسي الحكم، وأتقن تنفيذ ما وضع عليه من تكليفات وواجبات، وتحول إلى حصان طروادة الأميركي في أفريقيا ضد كل حركات التحرر ذات النزعات الاشتراكية أو التي تميل إلى الاتحاد السوفييتي السابق، وضمن للغرب استمرار تدفق موارد الكونغو عبر الشركات العابرة للقارات.
37 عامًا قضاها موبوتو على كرسي السلطة في الكونغو، لم تفلح في تغيير وجه هذا البلد البائس، ولم تنجح سياساته سوى في المزيد من تعميق الإفقار وفرض الجهل ونشر المرض، رغم أن البلد يعد أحد أغنى بلدان إفريقيا والعالم في مجال الموارد الطبيعية، لكن كلها تذهب إلى جيوب السماسرة والمسؤولين، وقبل الكل، الشركات الغربية الكبرى.
وفي تقرير للأمم المتحدة، صادر عام 2001، قدرت ثروات الكونغو المعدنية غير المستغلة بمبلغ 24 تريليون دولار، هذا الرقم في مطلع الألفية كان يساوي إجمالي الناتج المحلي السنوي للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا مجتمعتين، ورغم الحروب والانقلابات المستمرة، فإنها واحدة من أهم موردي الكولتان والنحاس والكوبالت والألماس والذهب على مستوى العالم، إلا أن حصيلة الصادرات –غير الشرعية- تذهب لأمراء الحرب في شرق البلاد وللمسؤولين في غربها.
لا يختلف الوضوع كثيرًا في السودان عن الكونغو. السودان يعد ثاني أكثر الدول الأفريقية ثراءً في الموارد والثروات الطبيعية، الذهب واليورانيوم والنفط والصمغ العربي، وغيره كثير، وأولى أزماته تكمن وتدور حول التدخلات الغربية التي تستهدف تدمير إمكانياته كدولة، وإبقائه رهينة للشركات الغربية الكبرى، وسواء كانت السياسة المتبعة حصارًا أميركيًا معلنًا كما حدث لعقود طويلة في عهد البشير، أو تدخلًا صامتًا عبر الأموال والأنظمة الخليجية، فإن أزمة السودان الأساس كانت –وستبقى- في كلمة “لومومبا” الخالدة والعبقرية، الرجل الأبيض وضع السلاح في يد الرجل الأسود، والنتيجة ستكون اغتيال بلد.
لا يمكن الرهان في أزمة السودان على أحد من أطرافها، فهم بالضبط مثل تشومبي وسيسي سيكو، لا يعنيهم في شيء دماء الملايين، وهم مستعدون كما أظهرت اشتباكات الخرطوم للقتال حتى آخر سوداني، وكل منهما يعلم أنها معركة صفرية، إما كل شيء أو لا شيء، وبالتالي فإنه من المفهوم أن أية هدنة لن تصمد لساعات، وأي تفكير في حل يوفق بينهما هو ظن واهم وخيال عاجز.
الحل الوحيد في أزمة السودان، والرهان الممكن أيضًا، هو أن يدرك الشعب السوداني أن الحل بيده، وأن طريق الخروج يحتاج إلى دماء وتضحيات هائلة، بعيدًا عن أي تمنٍّ كاذب في أية شخصية من أطراف الوضع الحالي، وأن باب الحرية مغلق، لا يفتح إلا بالدم والألم والعرق، وأن الموت البطيء الذي يعانونه اليوم لا يختلف كثيرًا عن الموت بين زخات الرصاص، سوى هذا الحل فلن يتحول السودان سوى إلى كونغو أو صومال، وهذا هو المطلوب غربيًا.