الحرب الروسية – الأوكرانية.. إلى أين؟
موقع قناة الميادين:
الصراع العالمي آخذ في الازدياد. بالنسبة إلى روسيا والغرب، هو صراع وجودي، ولا يظهر أي من الطرفين ميلاً إلى التسوية.
تحت عنوان “حول انقشاع الوهم”، يتناول المحلل السياسي الروسي سيرغي بوليتايف في صفحات “روسيا في السياسة الدولية” آثار العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا على روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، مستشرفاً أبعاد الصراع في المرحلة المقبلة.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
أطلقت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في 24 شباط/فبراير 2022، سلسلة من التفاعلات التي أدت إلى صراع عالمي يمكن مقارنته سياسياً واقتصادياً بالحروب العالمية. ربما نكون في المرحلة الأولى من هذا الصراع. ومع مرور الوقت، سيشارك فيه المزيد من اللاعبين.
مع ذلك، بات بإمكاننا استخلاص بعض الاستنتاجات اليوم. كان العام الماضي عام اصطدام ما بعد الحداثة بالعالم الواقعي. عملياً، بنى جميع المشاركين المباشرين وغير المباشرين في الأزمة الأوكرانية سياساتهم الداخلية والخارجية على أسس نظرية وعقائدية للغاية، وعلى الأمنيات، لكن العواقب كانت شديدة الخطورة عليهم. فلنلقِ نظرة على اللاعبين الأساسيين.
روسيا
يتمثّل وهمنا الأول والأساسي بقابلية التفاوض مع الأطراف المعادية. حاولنا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إحلال السلام في أوكرانيا استناداً إلى أنه سيكون أفضل للجميع، فالغرب، على الحدود مع قوة نووية رائدة، سيحصل على حزام أمني ذي لعبة قواعدها واضحة، إلى جانب درجة عالية من التأثير في أوكرانيا.
إضافةً إلى ذلك، ستحافظ أوروبا على علاقاتها مع روسيا وتعزّزها كقاعدة موارد رئيسة وسوق مبيعات واسع، وستتاح لأوكرانيا فرصة الاندماج الناعم في أوروبا مع الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والثقافية العميقة مع روسيا، فيما ستحتفظ الأخيرة بتأثيرها في أوكرانيا، بما يضمن سياسة كييف الودية تجاه كل من موسكو وملايين السكان الروس في أوكرانيا، إضافةً إلى مزيد من الاندماج التدريجي في الغرب، وفي النظام الأوروبي.
ومع ذلك، فإنّ تاريخ أوكرانيا لحقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي بكامله هو تاريخ حركة معاكسة. لم يعد هناك رجوع عن هذه الحركة منذ عام 2014. وقد أدى تجاهلنا المستمر لهذه الحقيقة ومحاولاتنا العنيدة لاستعادة العملية التاريخية باتفاقيات مع كييف أو مع الغرب إلى العملية العسكرية الخاصة.
ما الخطأ الذي حدث بالضبط في نهاية شباط/فبراير 2022؟ قد لا نعرف ما هو بالضبط، ولكن إذا كانت موسكو قد حدّدت هدفاً لحلّ المشكلة الأوكرانية وفقاً للسيناريو الجورجي، مع القليل من إراقة الدماء، وفي غضون أيام قليلة، فمن الواضح أن هذا الهدف لم يتحقق.
أودّ أن أصدّق أن أوهام موسكو تبددت أخيراً، ولم تعد قيادتنا العسكرية والسياسية تعوّل على عقل الغرب وكييف. ومع ذلك، حتى الآن، يشير مسار العمليات العسكرية إلى العكس تماماً. بعد شباط/فبراير، صارت العمليات الهجومية تُنفذ فقط في الدونباس، وليس على طول الجبهة بأكملها، وصارت قواتنا تعتمد على الشركات العسكرية والأمنية؛ الميليشيات المكونة من جمهوريتي الدونباس. هناك شعور بأنَّنا خلال سنة لم نفهم حقاً ما يجب القيام به بعد ذلك، كما لو كنا ننتظر أن يشعر العدو بالملل، ويبدأ أخيراً بالتفاوض بشكل حقيقي.
همنا الثاني تمثّل بالقدرات القتالية لجيشنا. عادة، تُقيّم تصرفات القوات المسلحة الروسية، في خضم العملية العسكرية الخاصة، بناء على خلفية وطنية. لكن يجب أن يكون مفهوماً أنه منذ زمن بعيد، لم يكن جيشنا مستعداً لنزاع بري واسع النطاق على جبهة يصل طولها إلى آلاف الكيلومترات، مع الحاجة إلى القيام بأعمال حربية على مستوى الحرب الوطنية العظمى، مع حشد مئات الآلاف من الناس. لن يتغير ذلك بين عشية وضحاها.
وعلى الرغم من تحديد أوجه القصور في تصرفات القوات المسلحة وهيئة الأركان العامة، والتي أزيلت في الآونة الأخيرة بطريقة ما، فإنَّنا ما زلنا لا نشهد هجوماً حاسماً واسع النطاق بهدف هزيمة الجيش الأوكراني. ربما سنراه هذا العام. الجيش مستعد الآن ولا ينتظر.
الولايات المتحدة الأميركية
تمثّل الوهم الرئيسي للولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة بالسيطرة الكاملة (أو على الأقل الهيمنة) على العالم، وبالتالي الاقتناع بأنَّ درجة مراعاة مصالح الأطراف المقابلة تتحدد في واشنطن، وفيها فقط. ببساطة، تظنّ واشنطن أنَّ الأمر سيكون كما تريد، وإن لم يتحقق لها ذلك، فهي تمتلك الوسائل الكافية لإكراه أولئك الذين عصوها ومعاقبتهم.
في كثير من النواحي، أدت عدم المرونة هذه إلى الأزمة الحالية، إذ كان من الممكن التفاوض مع روسيا وحفظ ماء وجهها، بل حتى حفظ مصلحتها الاقتصادية والسياسية، وربما كانت موسكو مستعدة للاستجابة.
في الشرق الأوسط أيضاً، أدى مثل هذا السلوك إلى إضعاف حاد في موقف الولايات المتحدة، ما جعل احتمال الصراع مع الصين لا رجوع فيه تقريباً، وزُرعت القنابل الموقوتة في إطار العلاقات مع الحلفاء في أوروبا وآسيا، التي من المحتمل أن تنفجر في السنوات المقبلة.
منذ الحرب العالمية الثانية، تعمل الولايات المتحدة على إنشاء نظام عالمي قائم على نوع جديد من الإمبراطورية. لقد سيطرت باستمرار على العمليات السياسية والاقتصادية في العالم من دون مواجهة الكثير من المقاومة، فيما حاول الجميع الاندماج في هذا النظام، وحصلوا في المقابل على بعض أسواق المبيعات وعلى أموال سهلة، وبعضهم حصل على مظلة أمنية وفرصة، فقلص ميزانية الإنفاق على جيشه أو حصل على التقنيات الحديثة.
الولايات المتحدة نفسها، بعدما وجدت نفسها في دور الدولة الأمّ، أصبحت الطبقة السياسية فيها مقتنعة بأن مثل هذا النظام لم يكن نتيجة عمل دؤوب ومراعاة مصالح الشركاء، ولكنه كان نوعاً من الحقوق المكتسبة، وهو يغدو عبئاً في بعض الأحيان.
من هنا يأتي الركود. كلما ازدادت هستيريا السياسة الخارجية الأميركية، فإنها تحاول إجبار الآخرين على التصرف بطريقتهم الخاصة. ونتيجة لذلك، تقوض النظام العالمي المتمركز حولها. تتمتع الولايات المتحدة بهامش أمان قوي، ولا تزال أوسع قاعدة غذائية، فيما المؤسسات العالمية البديلة بدأت للتو بالتبلور. لذلك، لا ينبغي للمرء أن يتوقع تغييرات ملحوظة في السياسة الأميركية في السنوات المقبلة، وخصوصاً أن الانقسام الداخلي يجبر واشنطن على زيادة التوتر في السياسة الخارجية.
الوهم الأميركي الثاني (والأوروبي أيضاً) يتمثل بأنه يمكن كسب صراع عسكري على المستوى الأوكراني من دون تدخل مباشر فيه. نعم، القوات المسلحة لأوكرانيا صامدة بشكل جيد، لكن روسيا نشرت حتى الآن جزءاً صغيراً من مواردها العسكرية في العملية العسكرية الخاصة، ودرجة التصعيد من جانبنا الآن تحددها القرارات السياسية، وليس العسكرية والتعبئة، إذ يمكننا مضاعفة حجم الهجوم، وسيكون من الصعب للغاية على الغرب والولايات المتحدة الردّ عليه من دون تدخل مباشر في الصراع (على الأقل الدفاع الجوي والقوات الجوية). ومع ذلك، شدد الرئيس بايدن مراراً وتكراراً على أنه لن يوافق على مثل هذا التدخل ما دام على قيد الحياة.
أوروبا
يتمثل وهم أوروبا الرئيس بأنَّ رفاهيتها التي غذّتها جيداً في العقود الماضية هي ميزة خاصة بها، وأنها تقوم على مجموعة من القيم المجردة. في الواقع، قامت رفاهية أوروبا على الجيش الأميركي، وعلى سقف سياسي واقتصادي وقاعدة موارد رخيصة روسية في المقام الأول، إذ ساهم غياب الحاجة إلى رعاية أمن الفرد وموارده وأسواق المبيعات واستحالة النزاعات الداخلية في انطلاق اقتصادي غير مسبوق وعصر ذهبي حقيقي.
من ناحية أخرى، أدى إلى انحطاط النخب الأوروبية والطبقة السياسية التي اعتقدت بصدق أن هذه الحال ستستمر دائماً، وأن الموارد كافية لتنمية القيم والسعي لنشرها في جميع أنحاء العالم المتخلف، وهذا ما يفسر عناد أوروبا في القضية الأوكرانية وتعنّتها وتطرفها المطلق.
تتخذ أوروبا أشد العقوبات شراسة ضد روسيا بأكبر قدر من الحماسة، بغض النظر عن أي ضرر، وها هي تحرم نفسها من سوق كبيرة، ومن أهم قاعدة لمواردها، وتتحول إلى اعتماد شبه استعماري على واشنطن، التي تملك قوة عسكرية حقيقية وسيطرة حقيقية على العمليات السياسية والاقتصادية في العالم، على عكس أوروبا.
بعد فشل محاولة الغرب المشتركة لصدم روسيا اقتصادياً وإرهابها، وقع قادة أوروبا في حيرة من أمرهم. يمكن للأشخاص أنفسهم، بفارق يومين، التحدث عن الحاجة إلى انتصار عسكري وحوار دبلوماسي. وكما يبدو، ليس لديهم فهم حقيقي لما يعنيه “النصر العسكري” و”الحوار الدبلوماسي”.
تقف أوروبا أمام احتمالات واقعية للغاية، منها احتمال التزايد المستمر في أسعار الطاقة لسنوات، وتراجع التصنيع وانخفاض مستويات المعيشة، واحتمال نشوب حرب تجارية مع الولايات المتحدة في حالة ركود عالمي، واحتمال الحفاظ على أوكرانيا المدمرة لعدد غير محدد من السنوات، ووقوع مئات المليارات من الخسائر من الاستثمارات المتراكمة في روسيا.
ذلك واقعي، لكنه لم يؤدِّ بعد إلى أي قرارات، لأنه ببساطة لا يوجد من يتخذها وينفذها. إضافة إلى ذلك، فإن مشكلات الاتحاد الأوروبي التي طال أمدها، والتي تعثر بسببها في السنوات السابقة، لم تختفِ، من أزمة الهجرة إلى إحلال التوازن في بلدان جنوب أوروبا التي على وشك أن تنهار اقتصادياً.
أوكرانيا
يتمثل الوهم الرئيس لأوكرانيا بإيمان قيادتها بإمكانية بناء دولة أحادية العرق معادية لروسيا داخل حدود الاتحاد السوفياتي، فيها نسبة كبيرة من السكان الروس، فضلاً عن الاقتناع بأنها ستظل تحابي الغرب إلى ما لا نهاية وتحصل على الدعم “كرمى لعينيها الجميلتين”، كما يُقال.
أوكرانيا ليست بولندا، فقد أدت محاولة اتباع سياستها الخاصة إلى صراع أهلي كان كل جانب فيه مدعوماً من الغرب وروسيا. بعدما دخل هذا الصراع مرحلة مفتوحة عام 2014، بدأت أوكرانيا بالتحول من بؤرة مناهضة لروسيا إلى سلاح مؤذٍ، أي إلى نوع “الكاميكازي” الغربي ضد روسيا.
يجب الاعتراف بأنّ هذا الأمر نجح جزئياً، فقد صمدت القوات المسلحة الأوكرانية والدولة الأوكرانية كذلك في وجه ضربة شباط/فبراير، ونهضت بدعم من الغرب، متسببة بعدد من الهزائم المؤلمة لروسيا بحلول الخريف.
ومع ذلك، فإنَّ النجاحات العسكرية ليست ذات طبيعة إستراتيجية، وتكلفتها هي موت الاقتصاد الأوكراني. وفقاً لتقديرات مختلفة، فرَّ ما يصل إلى ثلث السكان من أوكرانيا، وانخفض الإنتاج بمقدار النصف حتى قبل الضربات الروسية على منشآت الطاقة التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر. وبحلول العام الجديد، وفقاً لتصريحات رسمية من كييف، وصلت الخسائر إلى 70%، ما يعني البطالة والخزانة الفارغة وإفقار السكان والإغلاق الواسع النطاق للمؤسسات.
نعم، يعمل الغرب الآن كخلفية قوية لأوكرانيا، ويتكبد نفقات جسيمة. ومع ذلك، فإنه يتجنب المشاركة المباشرة في المعارك، ويحول كل المصاعب إلى كييف. مهما كانت نتيجة المرحلة الساخنة من الصراع، فإن أوكرانيا المدمرة، كما يبدو، سيتعين عليها التعامل مع عواقبها بمفردها، مهما زادت صعوبة هذه العواقب.
ومع ذلك، حتى لو افترضنا أن أحد أفراد النخب الأوكرانية يدرك كيف يستخدم الغرب بلاده، فلا يمكنه أن يوقف سيطرة الغرب المحكمة والضخ الأيديولوجي الكبير للغاية الذي وصل إلى مداه.
يمكن للغرب أن يرفض تحفيز أوكرانيا في حال واحدة فقط: إذا هُزمت القوات المسلحة الأوكرانية وفقدت قدرتها على القتال، وإذا هبط مستوى أوكرانيا فعلياً بما يكفي لتفقد أهميتها الإستراتيجية بالنسبة إلى الغرب. إن أي هدنة لن تؤدي إلا إلى تأجيل الصراع إلى المستقبل، ولا ينبغي أن يكون لدى المرء أي أوهام في هذا الموضوع.
الصراع العالمي آخذ في الازدياد. بالنسبة إلى روسيا والغرب، هو صراع وجودي، ولا يظهر أي من الطرفين ميلاً إلى التسوية. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الأعمال الحربية لا تزال محلية نسبياً بطبيعتها، ومقتصرة على مسرح أوكراني واحد.
يبدو أن الطرفين يركزان على تعلم كيفية التأقلم في الظروف الجديدة، ما يؤشر إلى وجود فرصة لتطوير النظام العالمي المقبل وقواعد لعبته بسلام نسبياً، من دون تحول الصراع إلى حرب شاملة لا نهاية لها، مع خطر وقوع كارثة نووية.
الكاسب في هذه العملية هو من يقبل بالواقع المستجد قبل الآخرين ويفهم مكانه فيه ويبدأ بالتصرف وفقاً لذلك. هذا لا ينطبق فقط على المشاركين في الأزمة الأوكرانية المذكورين أعلاه، ولكن أيضاً على البلدان المحايدة التي لم تنفصل بعد عن أوهامها.