الثورة المعجزة
صحيفة الوفاق الإيرانية-
د. سيد محمود خواسته:
ان الحديث عن الاعجاز، او المعجزة، او وقوع وظهور ذلك، في الفترة الراهنة التي نعيش فيها، وهي متلاطمة الامواج، في محيط لا رؤية لأوله وآخره، تتلاعب فيه الرياح والعواصف، بمركبات تختلف مسمياتها، تلاعب الصبيان بالكرة وتقاذفها بين ايديهم وارجلهم!
الحديث عن الموضوع آنف الذكر، قد يكون صعبا او حتى مستحيلا، ليس فقط لمن يسرده ويأتي بألف دليل حوله، بل، لمن يسمعه وينصت لما يمليه القائل او الكاتب، أيضا!… انني، هنا، لست بصدد الإتيان بذريعة لتمهيد السبيل لذلك، ولكني اتطرق الى واقعة ملموسة، محسوسة، لمسها كل فرد في ايران بل والعالم اجمع، وأحس بها، وبالنسيم الذي غطى وجهه، وأيقظه متلائماً معه، فأفاق، ومرغ عينيه، ليرى ان ما امامه على امتداد نظره، ليس حلما شيقا! بل حقيقة، ناصعة، ساطعة كالشمس، وإن لم يكد يصدق ذلك! لأن الظلمات التي احاطت به، من كل حدب وصوب، ولفته وغيره، لا يمكن ازاحتها بأيد خالية من السلاح، وأناس جردهم الطغيان والطغاة، من كل ما يملكونه حتى عقولهم وأفكارهم… الا ان يكون العامل الدخيل آت من ملكوت اعلى وقدرة ازلية لا تقهر، وعلى يد رجل من عباد الله المخلصين.
وهكذا تحققت الإرادة الإلهية، رغم “نفاثات العقد” وعبدة المردة وشياطين الإنس والجن. لقد أرادوا شيئا وأراد الله عز وجل شيئا آخر.. “يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون” (الصف/8).
وحدثت المعجزة … معجزة انتصار الثورة الاسلامية المظفرة، التي لم يتصورها فراعنة العصر، والدمى التي تتحرك بأيديهم هنا وهناك… وهكذا تحقق النصر، لأن الانسان حينها، نظر الى ربه ومعبوده بإخلاص وصدق نية، فمنحه تعالى انتصارا لم ير مثله انسان قط، في فترة حياته المعاصرة!… فخرج ليشهد بأم عينيه، معجزة الله جل جلاله بعودة الاسلام ثانية الى الساحة، لا سيما في ايران، بعد 2500 عام، من حكم الأكاسرة ومن تبعهم على تيجانهم وعروشهم المرصعة، وملابسهم المزركشة بخيوط الذهب…
وظهر عبد من عباد الله الصالحين، كقائد للإنتفاضة العظمى، مضحٍ في سبيل الله عز وجل، بكل ما لديه، ليقول كلمة الحق وهي العليا، لأنها كلمة الله تعالى… وينفض الغبار عن كل شيء علق بالإسلام المبين، الدين القويم، وغطى وجهه الناصع، ويعلنها جهرة: “ان الدين عند الله الاسلام” (آل عمران/19)، و “بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل” (الحج/62)، فهل، فيما مضى ريبة، بمعجزة وقعت؟
وهل شهد التاريخ، الاسلامي منه خاصة، حدثا كالذي ارتجت له ايران، بل والدنيا بأسرها، سنة 1979 م.؟ انه الإسلام الأصيل، دون شائبة، انتفض ليقولها، كلمة حق تدحض باطلاً ويقود امة اخلصت لدينها، وقدمت آلاف القرابين، على مسلخ الحرية الحمراء، ليسقي ويروي بذلك، الأرض الطاهرة التي دنّسها الطغاة، ويحييها مرة اخرى، لتتنقل عليها خطوات الأحرار المسلمين خاصة، وتقام صلوات خاشعة، وترتفع اكف نحو السماء بأدعية، وفاء للخالق الاكرم، الذي أسبغ عليهم نعما لا تحصى.
نحن اليوم في الذكرى الثالثة والأربعين، للثورة الاسلامية المجيدة، نحتفي بها ونجدد العهد لها وللقائد الفذ، الذي رعاها وهي شجيرة يانعة، وأغدق عليها حباً صادقاً من القلب، فأصبحت شجرة طيبة المنبت، عظيمة في هيكلها وغصونها وما يتفرع منها، ممتدا في ارجاء المعمورة بما رحبت، ذلك، هو الامام الخميني (قدس)، رجل الدين المجدد، النافض غبار اليأس عن الاسلام، والمدافع المستميت عنه، داعيا الفقهاء، خاصة، الى الحفاظ على تراث السلف الصالح، لألا يخسر الاسلام كل شيء.
قال سماحته: “اذا خسر الاسلام كل شيء، لا سمح الله، وبقي فقهه بالطريقة الموروثة على الفقهاء العظام، فسيستمر في طريقه. اما اذا ما حصل الاسلام على كل شيء وخسر، لا سمح الله، فقهه على طريقة السلف الصالح، فلن يمكن الاستمرار في الطريق الصحيح، وينتهي الامر الى الضياع” (من نداء في الذكرى الرابعة لانتصار الثورة الاسلامية، 1983م.)… وحظي نداءه هذا، بالعناية، وكان محط انظار فقهاء الحوزات العلمية، التي قامت بدورها، بتنقية الفقه مما علق به.
ان المتتبع لمسار الثورة الاسلامية، منذ انطلاق شرارتها الأولى وعلى هامتها اسم القائد المظفر الإمام الخميني (قدس)، يرى بوضوح، انها خطت خطوات ثابتة، متجذرة على الارض، تحيطها وترعاها، افئدة طوابير المسلمين الغيارى في ايران، والموالين لهم في ارجاء شتى من العالم، لتكون سراجاً منيراً، وهّاجاً، ينير مسار الثوار في كل مكان، بما انضم الى صفوفها المتراصة، من اتباع الديانات الأخرى كالمسيحيين واليهود والزرادشت، لأنها جاءت للجميع ولإنقاذ الجميع، ولم يعجب ذلك، كبار وصغار الشياطين والدائرين في افلاكهم، فأرادوا إجهاض الثورة وهي فتية، فأوعزوا الى عملاء لهم من العسكريين، في قاعدة (نوجه) الجوية في همدان، لضرب الثورة المباركة، والانقضاض عليها، بانقلاب عسكري، باء بالفشل الذريع، وقامت مجموعات من المتربصين بالثورة في كردستان، خاصة، مرتكبين جرائم بشعة، يندى لها جبين الانسانية، وفي خوزستان ومناطق اخرى، ولم يفلح الظالمون العبيد وارتد السحر على الساحر.
وأشار الطغاة الكبار، بعد ذلك، الى دمية تأتمر بأمرهم وتطمح للنيل من عظمة الثورة المجيدة، معتبرا نفسه (قائد العروبة ومنقذها!) وجاء لإحياء مجد الأمة العربية، بما انها ذات رسالة خالدة!، متبعا نظرية، جاهلية، متهرئة، عفى عليها الزمن، فقام بحرب ضروس، مفروضة على ايران الثورة و “زين له سوء عمله فرآه حسنا” (فاطر/8)، على امل اجتثاث جذور الثورة الاسلامية وهي في طليعتها، فارتكب ما ارتكب، لثمان سنوات عجاف، فما وصل الى ما اراد، وما وصل أسياده الذين اوقعوه في “غياهب الجب”، “خاب كل جبار عنيد” (ابراهيم/15)، وارتد على عقبيه، صفر اليدين.
حيث انتهى به المطاف، الى الاختباء في جحر، يخرج منه مذعوراً، مرعوباً، تائه الفكر والذهن، ملتمساً بصيصاً من نور، يرى طريقه فيه… ولم يعتبر الطغاة، بذلك، وعلى رأسهم الأمبريالية الأمريكية، والكيان الصهيوني الغاصب، فأقاموا الدنيا واقعدوها، بصراخهم وضوضائهم، كذئاب مفترسة، مكشرة عن أنيابها، ضد ايران، يساعدهم، في مؤامراتهم المتواصلة، لحد الآن، وما عادوا الا بخفي حنين، لأن الشهادة والإستشهاد، ركن من اركان الاسلام العتيد والثورة الاسلامية، فقد روي عن رسول الله (ص): “من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه” (بحار الانوار، المجلسي، ج 67، ص 201)، وما دام ذلك ساريا، في عروق الاحرار، مفجري الثورة الاسلامية، وعلى رأسهم الامام الخميني (قدس)، فهي في مسيرها، منتصرة، مقتدرة، باذن الله تعالى.
ان الاهداف التي اعلنت عنها، لن يثنيها عواء الذئاب عن مسيرتها الظافرة، وتحقيق اولوياتها، بما فيها قضية فلسطين المغتصبة، ولا سيما القدس. وما تسمية الامام (قدس) لآخر جمعة من شهر رمضان المبارك، بيوم القدس، الا ادل برهان على ذلك، ليهب الجميع، خاصة، الشعوب المسلمة، بكافة شرائحها، لتحريرها وإنقاذها من براثن الصهيونية، والابتعاد عن القومية التي تعني العنصرية، والانضواء تحت راية الاسلام الاصيل وتعاليمه السمحاء.
قال الإمام (قدس)، في نداء له مخاطباً حجاج بيت الله الحرام، في ذي الحجة، عام 1400 ه.ق.: “ان حب الوطن، وحب اهل الوطن وصيانة حدود البلاد، مسألة لا نقاش فيها، ورفع شعار القومية، أمام الشعوب المسلمة الاخرى، مسألة تخالف الإسلام والقرآن الكريم، وتعاليم النبي الاكرم (ص)، والقومية التي تؤدي الى العداء بين المسلمين، والإنشقاق بين صفوف المؤمنين مخالفة للاسلام، ولمصلحة المسلمين، وهي من حيل الاجانب الذين يؤلمهم الاسلام وتوسعه” (سلسلة الحياة الطيبة، خط الامام الخميني (قدس)).
فالثورة الاسلامية، اذن، لا تزال ثورة المستضعفين في ايران، والوطن الاسلامي، بل والعالم بأجمعه، رغم ظهور فقاعات من اشباه الرجال والنساء، وهي ضئيلة، ضامرة، لا قيمة لها، كجرذان تثب، ساعية، للنيل من ليث، وهي عاجزة حتى عن بلوغ اعلى قدميه… وما انجزته الثورة الاسلامية العظيمة من مكتسبات في شتى الحقول، الا معالم في الطريق.. طريق الحق القويم والصراط المستقيم والاسلام الاصيل، وهي معجزة القرن، التي لا تدركها ادمغة الطغاة الخاوية.