التسوية الشاملة مقابل الحرب الشاملة
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
إبراهيم الأمين:
تقترب المنطقة من جولة المواجهة الأخيرة. الشهور المقبلة ستبقى حافلة بالدم والنار. لكن المواجهة الأخيرة تتمحور حول محاولة طرفي الأزمة انتزاع المكسب الأكبر، قبل دخول غرفة المفاوضات.
خلال الأشهر الـ 18 الأولى، نجح الغرب ومعه الحلفاء، أو الأدوات، من العرب والأتراك في محاصرة النظام في سوريا. تم تعريضه لأكبر عملية إنهاك، وإجباره على التخلي عن مناطق كبيرة من سوريا، واعتماد سياسات دفاعية. وعندما اقتربت النار بقوة من أسوار دمشق، اتخذ القرار بالدعم المباشر. دخل حزب الله المعركة بغطاء متنوّع مصدره إيران، وبموافقة روسية. وخلال سنة، نجح الحزب في إفشال المرحلة الأخيرة من الهجوم على النظام، ومنع إسقاطه.
وخلال عام، ساعد حزب الله النظام على إعادة ترتيب أموره الميدانية والعسكرية، ووفّر أرضيّة لنجاحات عززت من سلطة النظام في مناطق كثيرة، وتسبّبت بإرباكات قاسية للطرف الآخر.
الهجمة المضادة أخذت أكثر من شكل، في السياسة والإعلام والميدان. وكانت ذروتها التلويح بعدوان أميركي ــــ غربي على سوريا، القصد منه تعطيل كل نجاحات حزب الله، ومنعه من التقدم، وضرب بنية رئيسية للنظام تدفعه إلى الانهيار. وحصلت أشياء كثيرة، منعت حصول العدوان، وصولاً إلى وقوف الجميع صفّاً واحداً في مواجهة جدار الأزمة. فماذا عن البديل؟
التسوية تبدو البديل المنطقي من الحرب. لكنّ التسوية لا تكون إلا شاملة هذه المرة. الغرب، وأميركا خصوصاً أعادت ربط الملفات بعضها ببعض. وهي التي استدرجت تعاظم الدور الروسي والإيراني والعراقي و«الحزب اللاهي» في سوريا والمنطقة. الغرب نفسه أوقع دول الخليج العربي، كما تركيا، في فخ «وهم السلطة الكاملة»، والغرب نفسه ربط كما هي العادة ــــ وكما هي الحقيقة ــــ بين الأزمة السورية وملف الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. ولذلك، فإن التسوية التي تشكل بديلاً طبيعياً من الحرب ومن فشل الحسم العسكري، ستكون شاملة.
شمولية التسوية لا تعني أنها ستحصل دفعة واحدة، ولا تلزم أحداً من الأطراف بالتنازل حيث لا يريد، ولا تعني أبداً أن جراحات المنطقة ستعالج دفعة واحدة. والأهم من كل ذلك أن شمولية التسوية ستعني أن واقعاً سياسياً مختلفاً سيسود المنطقة ودولها. صحيح أنه لا عودة إلى ما قبل زمن الحراك الشعبي، لكن الصحيح أيضاً أن مَن كان هدفاً للضرب ولم يسقط، سيكون أكثر حضوراً.
وماذا عن الطريق إلى التسوية؟
الآن، يمانع، أو يعاند، السعوديون، أكثر من أي جهة أخرى، تحقيق تسوية من شأنها دفعهم إلى تنازلات وخسائر كبيرة. لا استراتيجية في دولة الظلام، ولم يسبق أن كانت لديها استراتيجية واقعية. سكن الوهم قادة مملكة القهر إزاء سطوة المال، وزاد الوهم بعدما أخرج إلى العلن سلاح المجموعات التكفيرية التي تعارض كل شيء يرمز إلى الحياة.
الأتراك يواجهون أزمة داخلية تتصل بالدور المستقبلي. رجب طيب أردوغان مضطر الى صياغة دوره الشخصي ودور حكومته، وإذا لم يفعل ذلك بنفسه، فسيفعله رفاقه أو أبناء بلده، وتركيا ستكون مشغولة أكثر بلملمة الخسائر، لا في سوريا وبلاد الشام فحسب، بل مع الجيران الكبار، من إيران إلى روسيا، وصولاً إلى الصين. وهناك دول صغيرة ستحاول شراء مقاعد في قاعة الانتظار، أو حتى في مدرجات الجمهور. لكنها تعرف أن التغيير سيطال أشياء كثيرة فيها، وستحتاج إلى زمن حتى تتمكن من رفع رأسها من جديد.
لكن، ماذا عن سوريا، الدولة، والنظام والمعارضة؟
الطريق إلى التسوية في سوريا وحول سوريا، طويلة. الدماء ستظل تسيل، وسيبقى الرصاص مسموعاً فوق أصوات الحوار وخارج الغرف المغلقة. وسيدفع أبرياء كثر ثمن المرحلة الانتقالية، وستكون المشكلة الأكبر في عدم توافر مرجعية محلية، أو مرجعية عربية أو مرجعية دولية تحفظ الشق الداخلي السوري من التسوية. وسيكون أمام الدولة وأمام السلطة مهمة تحقيق مصالحة داخلية، واستعادة الثقة المفقودة بقوة بين قسم من الشعب والدولة، والتعوّد على شراكة حقيقية في حكم بلد كبير ومعقّد كسوريا.
لكن الأمر الذي سيكون مصدر قلق، أو مصدر تعب للسوريين، هو أن أزمتهم لن تكون ــــ حتى في الطريق الى الحل ــــ أزمة داخلية، وسيكون من السذاجة أن يرفع أحد في سوريا شعار: القرار السوري المستقل.
لقد تحولت الأزمة السورية إلى شأن داخلي في دول عدة، ولا سيما في جوارها العربي، من لبنان والأردن والعراق وفلسطين، وصولاً إلى دول الخليج العربي، وسيكون صعباً على أي سوري في الدولة والسلطة والمعارضة منع أبناء هذه الدول من التدخل. والتدخل هنا لا يعني نسخة عن الصورة النمطية للتدخل في شؤون بلد آخر. لأن التدخل هنا هو شكل من أشكال الشراكة في معالجة أزمة سيكون للحل فيها الأثر المضاعف في هذه الدول. كما أن للأزمة وانفجارها الآثار السلبية القاسية على هذه الدول…
سوريا، ولعقد إضافي، ستكون مركز اهتمام ومصالح الكثيرين، قبل أن تكون مركز اهتمام السوريين أنفسهم