الانسحابات الأميركية ومؤشرات انتهاء القوة الكبرى الأميركية
صحيفة الوطن السورية-
تحسين الحلبي:
يرى الكاتب الأميركي داغ باندو أحد الباحثين الكبار في معهد كاتو للدراسات السياسية والذي عمل مساعداً خاصاً للرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان سابقا وصاحب كتاب «الحماقات الخارجية للإمبراطورية العالمية الأميركية» في تحليل نشره في مجلة «أنتي وور» الأميركية الالكترونية في 11 آب الجاري أن «العصر المثير للولايات المتحدة كقوة قطب أوحد مسيطر أو فائق القوة انتهى وأن مشكلتها تعقدت بعد أن تبين أن الشعب الأميركي فقد حماسته للاستمرار في سياسة القوة الكبرى أو الوحيدة أو القادرة على الهيمنة على العالم».
ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج هو أن العالم كله يشهد الآن هزيمة هذه القوة الكبرى في أفغانستان بل هزيمة أربعة رؤساء أميركيين تعاقبوا على الحكم خلال 21 سنة.
ومثلما حملت هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام عام 1975 مضاعفات سلبية كثيرة على الدور والنفوذ الأميركي في العالم ستحمل الهزيمة في أفغانستان مضاعفات أصبح أول الدلائل عليها هي زيادة عدد أعداء أميركا أو المتناقضين مع مصالحها من الدول الصغيرة والكبيرة، فالكل يرى أن كل هذه القوة الكبرى الأميركية لم تستطع تثبيت نظام الحكم الذي وضعته بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان في كابول العاصمة، كما لم تستطع تثبيت الحكم الذي فرضته على الشعب العراقي بعد احتلالها للعراق عام 2003 وأصبح عدد من أنظمة الحكم التي تقدم واشنطن الحماية لها يعاني من أزمات تعرض هذه الأنظمة للسقوط، على حين عجزت القوة الامبريالية الأميركية بالمقابل عن إسقاط قادة سورية وإيران وقادة المقاومة في لبنان بعد أن شنت على هذه الأطراف كل أشكال الحرب العالمية الإرهابية.
كما وجدت الإدارة الأميركية السابقة والراهنة نفسها عاجزة عن منع أطراف محور المقاومة من توسيع وتعزيز علاقاتهم مع العراق والجزائر وتونس واليمن ودول أخرى في أميركا اللاتينية وفي آسيا، وهذا ما جعل باندو يستنتج أن عدد أعداء الولايات المتحدة بدأ يزيد بدلاً من أن تؤدي القوة الأميركية الكبرى إلى تخفيضه، ويبدو أن هذه الحقيقة أصبحت تدل على تدهور ما تسمى بقدرة الردع الأميركية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد ضعفاً متزايداً في قدرة أكبر حليف إستراتيجي للولايات المتحدة فيها وهو الكيان الإسرائيلي الذي يشكل القوة المصغرة في المنطقة لحماية المصالح الأميركية، فقد أصبح هذا الكيان يمر بتطورات جعلته عاجزاً عن حماية المصالح الأميركية بل عاجزاً أيضاً عن حماية كيانه بقوته الذاتية وبدأ يتحول إلى مطالبة المجتمع الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة لحمايته من محور المقاومة الذي بدأ يحقق زيادة في قدراته العسكرية على الرغم من كل أشكال الحصار الأميركي له.
يشير باندو إلى أن أي تمتين متزايد للتحالف الإستراتيجي بين موسكو وبكين يشكل هزيمة للسياسة الخارجية الأميركية لأن القوتين الكبريين الروسية والصينية أصبحت مصالحهما مشتركة ضد النفوذ الأميركي المتدهور على الساحة العالمية، ولم يعد التقارب أو التحالف المشترك داخل الكتلة الأوروبية -الأميركية بمستوى الاتفاق الروسي -الصيني المتعاظم في الشؤون العالمية، وهذا ما يجعل ميزان القوى الشامل بين الكتلتين إذا جاز التعبير ترجح كفته لمصلحة القوى غير المتوافقة مع السياسة الأميركية، وهذا يعني وجود مصالح غير متفق عليها بين بعض دول أوروبا وبين الولايات المتحدة، وخير مثال على ذلك هو ما تؤكده بعض السياسات الألمانية والفرنسية التي يظهر فيها علناً خلاف واضح مع السياسة الأميركية على الساحة العالمية وخاصة تجاه العلاقات مع روسيا والصين بل إيران أيضاً.
يبدو أن ما يتوقعه باندو، وهو الخبير بالشؤون السياسية الأميركية منذ ولاية ريغان، هو أن عهد القوة الكبرى الامبريالية الأميركية انتهى، وأصبحنا نشهد عدداً من دلائله الواضحة التي سيحمل نتائجها قريباً وجود عالم متعدد أقطاب القوة لن يكون أمامه سوى إيجاد قواعد نظام عالمي جديد أهم ما فيه هو فقدان الولايات المتحدة لقدرتها على فرض ما تريد من هيمنة وغطرسة ضد شعوب العالم، ولذلك يتوقع باندو ومعه عدد من المحللين الأميركيين أن تتخلى الإدارات الأميركية المقبلة عن سياسة الغزو الحربي لاحتلال أراضي الشعوب الأخرى لا لأنها ستتخلى بهذا الموقف عن مصالحها بل لأن اللجوء إلى الاحتلال وإرهاب الشعوب الأخرى لم يحقق الأهداف المطلوبة من وجهة النظر الأميركية.
ربما نشهد بعض تطبيقات هذه السياسة المتوقعة حين نجد أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تفرض أكثر عدد من العقوبات الاقتصادية وتلجأ إلى فرض أقسى أشكال الحصار في الغذاء والماء ضد دول كثيرة، وقد نفذت الإدارات الأميركية هذه السياسة بشكل سافر في أيامنا هذه ضد سورية وإيران وكوبا وفنزويلا ولبنان واليمن وهي تهدد بفرضها على العراق وعلى كل من يقف إلى جانب هذه الدول ويقدم الدعم لها ويرفض حظر الغذاء والماء والدواء عنها، وفي النهاية ستهزم هذه الشعوب كل أشكال الحصار الأميركي ولن تبنى قواعد نظام عالمي جديد إلا حين تفرض هذه العقوبات من العالم كله ضد السياسات الأميركية العدوانية.