الإفلاس العربي الرسمي؟
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
من المستحيل أن تُجمع تقارير اقتصادية دولية على إدانة نظام يتبع ـ بشكل كامل ـ وصفات وتعليمات هيئات السيطرة المالية العالمية. على الرغم من أي أرقام أو شواهد ودلالات على الفشل والعجز، وعلى الرغم من أية علامات على الوصول لخط نهاية طريق التراجع المساوم والمستمر، يبقى هناك قدر من التجمل أو النفاق في ثنايا التقارير وخلاصاتها المنشورة.
لكن المستحيل حدث في الحالة المصرية، مع بلوغ كل المؤشرات الاقتصادية نقطة اللا عودة، وكشف الأرقام الرسمية الحكومية عن عمق الأزمة وحجمها الحقيقي، ومع تراجع الرغبة الخليجية في إنقاذ كامل لوضع الحليف/ الأسير المصري، وتردد صندوق النقد الدولي في منح قبلة حياة للنظام المصري، وقبل كل شيء، في ظل حالة شعب فقد الثقة، فإذا به يفقد تتاليًا الرغبة والقدرة على أي رد فعل على مستوى الحدث المروع.
آخر ما جاء في هذا السياق، هو تقرير لنشرة “بلومبرج” الاقتصادية المرموقة عن خطر مؤكد حلّ على الاقتصاد المصري، والتهديد الواقعي بالإفلاس، ونشرت “بلومبرج إيكونوميكس” قائمة من 5 دول قالت إنها الدول التالية لسريلانكا على لائحة الإفلاس، وهي مصر، تونس، باكستان، السلفادور، غانا.
وأوضحت الشبكة في تقريرها عن أوضاع الديون السيادية طويلة الأجل، أن الدول الخمس تنضم لدول أخرى بالفعل وقعت في شبكة التخلف عن سداد ديونها أو تأجيلها، مثل لبنان وسريلانكا، والقائمة تشمل عددًا آخر من الدول النامية، التي تعاني من ديون خارجية ضخمة، مع التوقعات السلبية التي تغلف النمو الاقتصادي العالمي، والأزمة التي تضرب الولايات المتحدة وأوروبا، وحجمت بالتالي من القدرة على الاقتراض أو الحصول على تسهيلات ائتمانية ممددة.
في الحقيقة فإن التقرير ليس جديدًا، أو لا يكشف جديدًا، عن واقع قائم ومعيش، فالصكوك السيادية المصرية تتداول منذ شهرين على الأقل عند أقل مستوى لها على الإطلاق، إذ تتداول عند 55% من قيمتها الاسمية بالنسبة لصكوك ذات آجال 40 عامًا، وهو ما يترجم انعدام ثقة أسواق المال العالمية على قدرة الحكومة المصرية على دفع ديونها الهائلة.
وتأتي الأرقام الرسمية ساحقة لكل وهم تبقى في القدرة على السير بهذا الدرب المدمر، إذ تبلغ الفجوة التمويلية في موازنة مصر نحو 30 مليار دولار، وعلى الحكومة تدبير 32 مليار دولار حتى نهاية العام الحالي فقط لسداد أقساط وفوائد الديون الأجنبية المتضخمة، ما جعل الوضع الاقتصادي “هشًّا”، وفقًا لتعبير صندوق النقد الدولي.
ما صنع هذه الهشاشة هو إرادة السير وراء الغرب، ورغبة التقليد الأعمى لإمارة دبي وأبراجها الشاهقة وشوارعها الخالية الفسيحة، والذهاب إلى مشروعات لم تدرس من الأصل، وكانت ترجمة بائسة لخيال بائس لحُكم أكثر بؤسًا.
خلال السنوات السبع الماضية ـ فقط ـ اقترض النظام المصري نحو 15 إلى 20 مليار دولار سنويًا، وبعد أن ورث الموازنة العامة محملة بديون خارجية تبلغ بالكاد 46 مليار دولار، ارتفعت إلى 157.8 مليار دولار في نهاية آذار/ مارس 2022، وكذلك شهدت الديون الداخلية قفزة هائلة وارتفعت بدورها من 1816 مليار جنيه في 2014 إلى مستوى يبلغ 5500 مليار جنيه حاليًا.
ووفقًا لموازنة مصر للعام المالي الحالي 2022/2023، فإن كل إيرادات الموازنة لا تكفي لسداد مصروفات خدمة الديون (فوائد + أقساط)، حيث تبلغ جملة الإيرادات العامة 1.5 تريليون جنيه، بينما تبلغ أعباء خدمة الديون 1.66 تريليون جنيه أو 110% من جملة الإيرادات العامة بعد أن كانت بالكاد تدور حول 200 مليار جنيه في 2014!
وإذا ما قادك الحظ العاثر للاستماع إلى أحد المسؤولين، فلا بد أن تتقيأ من فرط ما يكذبون، فأولًا لا وجود لأزمة من الأصل، ثم إن وجدت الأزمة فهي بسبب جائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية، أو بسبب تعداد الشعب الكبير ومدى ضخامة الاحتياجات التي يتوجب على الحكومة تأمينها من الأسواق العالمية، أما الحقيقة فإنها آخر ما ستجده.
لم تضرب جائحة كورونا الاقتصاد المصري، إلا كما فعلت بغيره، ولم تؤثر الحرب الروسية الأوكرانية كثيرًا على فاتورة الواردات، ولا تفعل نظرية “الدومينو” كثيرًا فعلها في موازنات الدول والحكومات بعد أزمة سريلانكا، لكنها كلها تجمعت لتكون مسرعات ومحفزات على خلل هائل وفشل أسطوري في التعامل مع أبسط المواقف وأعقد الأزمات، سواء بسواء.
ما فعلته أزمة الاقتصاد العالمي أنها كشفت حقيقة أنظمة الحكم العربية كلها، ومصر هنا مجرد مثال بائس وموجع، وإن السير في طريق الهيمنة الأميركية على أوطاننا والسيطرة على مفاتيح الفعل فيها، هو السبب الأول لارتفاع أسعار المحروقات والخبر والأرز والسكر، وإنه بمقدار ارتباط أي دولة عربية بواشنطن، فإن كرامتها وقدرتها تصبحان أول الضحايا على مذبح الرضا الأميركي.
باختصار فإن الحكومة المصرية تجد نفسها الآن في موقف يحتم عليها الاختيار بين دفع الديون أو توفير الطعام والوقود لشعبها، وفي ظل المعرفة بتكوين النظام الحاكم وانحيازاته وطريقة تفكيره، فإنه سيتخذ الخيار الأول بالتأكيد، مع اللجوء لأقصى درجات القهر في الداخل، ريثما يلقي أحد ما في الغرب أو الخليج، بطوق نجاة يؤجل السقوط الكامل والنهائي.
والكارثة الحقيقية، والتي تتعلق بالأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم، وفي القلب منه الدول العربية، هي أن الحل الفردي ليس مطروحًا ولا هو ممكن، على مستوى وطني أو إقليمي، لا يمكن لفرد أن يفر وحده من مصير وطنه، ولا يمكن لدولة عربية أن تصنع وحدها الظرف القادر على النجاة وسط الاضطرابات العالمية، وقبل أي شيء، فإن أزمة العالم العربي واحدة مهما تعددت خطوط الحدود أو تغيرت أسماء المدن والعواصم، ومهما اختلفت اللهجات أو تنوعت العادات، كلنا نخضع للمؤثرات ذاتها، وكلنا تتقاذفنا التيارات ذاتها، وتمزقنا مؤامرة واحدة وتحاول افتراسنا قوة واحدة.