إيران ـ أميركا: زمن التحولات
دخلت العلاقات الايرانية ــ الاميركية مرحلة التحوّلات الكبرى. اليوم وغداً تسقط الحواجز. يلتقي مسؤولون أميركيون وايرانيون مباشرة ولمدى يومين في جنيف. بعدها يجتمع الايرانيون مع الروس في يومين متتاليين أيضاً. فرضت طهران نفسها الطرف الاول في المعادلة الدولية لمنطقة الشرق الاوسط. معادلة تدفع حلفاء ايران من سوريا والعراق واليمن الى حزب الله الى الشعور بثقة عالية بالنفس تقارب مرحلة الحديث عن انتصار محورهم. لعل التظهير الاهم لهذه الثقة ورد في الخطاب الاخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
مجرد انتقال مفاوضات «5+1» النووية مع ايران الى مرحلة التفاوض المباشر هو حدث كبير جداً في المنطقة. «الشيطان الأكبر» و«دولة الشر» يجلسان الى طاولة واحدة. أمر كان حتى الأمس القريب أقرب الى الخيال. اللقاء يجري على مستوى نواب وزيري خارجية البلدين. بعده لن يكون مفاجئاً ان يرتفع مستوى اللقاءات الى وزيري الخارجية. لا بل قد لا يفاجأ العالم، بعد حين، اذا التقى الرئيسان حسن روحاني وباراك اوباما. منذ اتصالهما الهاتفي الذي هزّ العالم اواخر ايلول الماضي، تتواصل الارتدادات الايجابية. نحن، اذاً، امام تحوّل هائل في منطقة الشرق الاوسط. لعلّنا امام اعادة رسم تحالفات جديدة وأدوار جديدة ستظهر انعكاساتها قريباً على أكثر من ملف، في مقدمها ملفا سوريا وايران. من الطبيعي ان يكون الاعلان عن هذه اللقاءات المفاجئة ثمرة جهود وساطة كثيرة بقيت بعيدة عن الاضواء.
ساهمت دول خليجية في الجهود، أبرزها سلطنة عمان ثم الكويت والعراق وتركيا وغيرها. من الطبيعي، أيضاً، ان تكون لقاءات حصلت بين الجانبين من دون الاعلان عنها على مستوى الخبراء. الملفات عديدة ومعقدة.
بعضها شائك وبعضها قابل للتفاهم سريعاً. لن يغامر البلدان بلقاءات ثنائية علنية من دون الاتفاق مسبقاً على عدد من هذه الملفات.
القنبلة ليست مشكلة
ليست القنبلة النووية هي المشكلة. كانت اميركا واسرائيل وكل الدول الغربية تدرك ذلك. ايران نفسها اعلنت مراراً رفضها انتاج قنابل. أفتى مرشد الثورة السيد علي خامنئي بتحريمها لأنها ضد العقيدة والدين والاخلاق. قال انه لو ارادت طهران انتاجها لما استطاع احد منعها من ذلك. هذا صحيح. المشكلة، اذاً، هي في امتلاك ايران التكنولوجيا النووية وليس القنبلة. هذه التكنولوجيا تجعل ايران منافساً شرساً ضد دول غربية عدة، في مقدمها فرنسا، على المستوى العالمي. لو تنافست، مثلاً، طهران وباريس على انتاج مفاعل كهربائي بطاقة نووية، تربح الاولى لأن التكاليف واليد العاملة اكثر قدرة على المنافسة. التقدم العلمي في ايران يتفوق على كل الجوار بنسبة 11،3 في المئة وفق آخر التقارير الصادر عن «معهد طومسون» ووكالة «رويترز». تفوقت ايران وهي محاصرة ومعاقبة. وصلت الى السماء بأقمارها الاصطناعية، وسيطرت على الارض والبحر بقدراتها الصاروخية الهائلة.
ما الذي تغير اذاً؟
يبدو الآن أن اميركا والغرب الاطلسي اقتنعا بضرورة ان تحافظ ايران على مستوى جيد من التكنولوجيا النووية. قَبِل الغرب حالياً ما كان يرفضه سابقاً. نجحت الى حد بعيد سياسة «مرونة المصارع» التي تحدث عنها السيد خامنئي. في المرونة، كان المرشد يؤكد ان المفاوضات لن تؤدي الى اي نتيجة. بقي يكثف الهجوم على اميركا ويدعم المفاوضين. كان الرئيس روحاني ووزارة الخارجية يكرران مؤشرات الانفتاح. اقترنت «مرونة المصارع» بـ «مناورة المصارع».
ماذا انتجت؟
على مستوى الاقليم، صارت ايران الدولة الأكثر أهمية بالنسبة لأميركا والغرب الاطلسي في مواجهة الارهاب. القراءات العسكرية، وفي مراكز الدراسات الاميركية المؤثرة، تنحو صوب هذا الاحتمال. سيتعزّز الامر في المرحلة المقبلة كلما تبيّن ان الارهاب بات في حاجة الى تعاون دولي اقليمي أكبر. لا بد ان يشمل هذا التعاون لاحقاً، وعلانية، الجيش السوري.
تستطيع ايران وأميركا الاتفاق على أدوارهما في منطقة شرق آسيا. المنطقة ستكون حيوية جداً لواشنطن في العقود المقبلة. البعض يتحدث عن احتمال ان تصبح مركز الثقل الابرز بعد الشرق الاوسط، خصوصاً بعد ان تتخلى أميركا عن النفط الخليجي ابتداء من عام 2018. يكفي ان يلاحظ المرء عدد القمم التي عقدتها ايران مع قادة آسيويين في الاشهر الماضية ليفهم سببب الاهتمام الاميركي.
كل بؤر التوتر في الشرق الاوسط والخليج في حاجة الى تفاهم أميركي ــــ ايراني. بعض هذا التفاهم صار واقعاً. العراق مثال جيد. الحكومة اللبنانية والخطة الامنية ليستا بعيدتين عن هذا التفاهم.
يحكى عن نصائح أميركية وروسية أُسديت الى الرياض في شأن أهمية التقارب مع طهران. يقال إن اوباما نفسه نقل مثل هذا التمني خلال زيارته الاخيرة الى السعودية. انتقل الرئيس الاميركي من مرحلة عزل ايران، بعد فشل اميركا في ذلك، الى مرحلة الاحتواء المزدوج لايران والسعودية والحلفاء الآخرين في الخليج. بعض القلق الخليجي مبرر من ان تكون الادارة الاميركية باتت تولي مستقبل تقاربها مع طهران الاهمية الأكبر.
أن يقرأ وزير الخارجية الاميركي جون كيري، من قلب بيروت، نصّاً مكتوباً يدعو فيه ايران وحزب الله لايجاد حل في سوريا، فهذا تحوّل كبير. لم يكن أمراً عابراً، ومن السذاجة المحلية اللبنانية التعامل معه على انه زلّة. كان النص مكتوباً. قرأه كيري حرفياً. جاء النص بعد الانتخابات السورية مباشرة. اذاً، هو امر غير عادي. لعل الشرق الاوسط سيعتاد على امور كثيرة غير عادية في المرحلة المقبلة.
ان يذهب أمير الكويت الشيخ صباح الاحمد الجابر الى طهران. ليس أمراً عابراً. سبقه تبادل زيارات بين طهران والامارات على مستوى وزيري الخارجية. من المهم الاشارة الى ان هذه الدولة الخليجية التي تطالب باستعادة ثلاث جزر من ايران، هي نفسها التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين طهران نحو 16 مليار دولار عام 2013 فقط. قد يضاف الى ذلك التوجه القطري الكبير نحو ايران، او زيارة نائب وزير الخارجية الايراني للشؤون العربية والافريقية حسين أمير عبد اللهيان الى اليمن ثم لقاؤه مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل على ارض الدوحة.
أن تتولى تركيا نفسها تسهيل اللقاءات الايرانية ــــ الاميركية فهذا أمر غير عابر ايضاً. قال ممثل ايران السابق في منظمة الامم المتحدة علي خرم ان «المفاوضات غير الرسمية التي جرت مؤخراً في اسطنبول ستترك تأثيراً ايجابياً على الجولة المقبلة من المفاوضات بين ايران ومجموعة 5+1، وان من شأن ذلك ان يسهم في توصل الجانبين الى تفاهم مشترك». من المهم مراقبة تفاصيل الزيارة التي يبدأها اليوم الرئيس روحاني الى تركيا. من الاهم مراقبة الخطاب التركي في المرحلة التي ستلي هذه الزيارة.
ان ترسل مصر، المتحالفة عضوياً حالياً مع السعودية، دعوة الى ايران للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي، فهذا ليس أمراً عابراً. هناك معلومات عدة عن خطوط ووساطات لتعزيز العلاقات المصرية ــــ الايرانية. المصلحة المتبادلة كبيرة. طهران التي لا تزال متحفظة في التعاطي مع السيسي بيدها الانفتاح عليه، تماماً كما بيدها الابقاء على الخطوط مع الاخوان المسلمين وحركة حماس.
ان يقول رئيس مؤسسة التراث الثقافي الايراني مسعود سلطاني ان عدد السياح الاميركيين الذين زاروا ايران خلال هذه الفترة ازداد 20 ضعفاً ليس أمراً عابراً. يضاف الى ذلك عدد الاجراءات الاقتصادية والمصرفية التي تم الاتفاق عليها بين واشنطن وطهران لنفهم أكثر أن الامور تسير سريعاً نحو التفاهم الأكبر. هل كان بالصدفة، اذاً، أن يقرر أوباما تأجيل العقوبات النفطية على ايران لستة أشهر مقبلة؟
أيضاً، أن تتقاطر على ايران وفود الدول الاوروبية باحثة عن صفقات اقتصادية ليس امراً عابراً.
ماذا عن سوريا؟
كان موقف ايران وروسيا الأكثر وضوحاً في دعم الانتخابات الرئاسية الاخيرة. منذ العام الاول للحرب في سوريا وعليها، أرسل السيد خامنئي من الرسائل ما يكفي لافهام خصوم سوريا بأن موقف ايران صلب خلف نظام الرئيس بشار الاسد. كثّف الرسائل الداعمة للقيادة السورية حين ظهر بعض ترنح من قبل ادارة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. القرار الايراني حيال سوريا معروف تماماً اين مركزه. في هذا المركز بات الموقف أكثر صلابة من السابق، خصوصاً بعد انخراط حزب الله في القتال. ارسلت طهران أحد أهم صقورها، رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن علاء الدين بروجوردي، الى سوريا لدعم الانتخابات الرئاسية ونتائجها. كان الرئيس روحاني في طليعة مهنئي نظيره السوري بولايته الثالثة. تشعر طهران بقوة وصوابية موقفها هذا في أعقاب الانتخابات، ولكن أيضاً بعد التقدم العسكري اللافت للجيش السوري وحلفائه على الارض.
احتمال المساومة الايرانية مع الاميركيين على مستقبل سوريا يشغل خيال بعض المحللين المناهضين للأسد. من استمع الى كبار المسؤولين الايرانيين، في الاشهر القليلة الماضية، يدرك ان هذا ضرب من خيال. لم تتورّط ايران بكل هذا الدعم العسكري والمالي والسياسي للرئيس الاسد لكي تتخلى عنه في «لحظة الانتصار». توصيف الانتصار ورد على لسان اكثر من مسؤول ايراني في الفترة القريبة الماضية، تماماً كما ورد بكل تفاصيله في الخطاب الاخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
ثم ان حلفاء سوريا في ايران وحزب الله يعترفون قبل غيرهم بأنه لولا «صمود الجيش السوري» لما استطاع اي طرف، من ايران الى الحزب وصولاً الى روسيا، الانتقال من مرحلة الدفاع الصعب الى مشارف الحسم. حتى الآن امتنعت ايران في كل مفاوضاتها مع الدول الغربية عن فتح ملفات أخرى غير النووي. كانت تقول: «ننتهي اولاً من هذا الملف، ثم ننتقل الى ملفات اخرى». تؤكد معلومات دقيقة ان عروضاً كثيرة ومهمة ومغرية قُدّمت الى القيادة الايرانية لتغيّر موقفها حيال الاسد. كانت كل العروض تصطدم بجواب واحد: «دمشق هي بالنسبة لنا كطهران». قيل هذا الكلام مباشرة من قبل مسؤولين ايرانيين الى القيادة السورية. قيل مثله ايضاً من قبل القيادة الروسية: الدفاع عن دمشق كالدفاع عن موسكو.
الآن، وفيما يشارف الاتفاق النووي على مراحله الكبيرة، هل يمكن التفكير بانفراجات في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين وغيرها من الملفات الشائكة. هل يمكن انتظار انفراج في العلاقات السعودية ــــ الايرانية التي لا تزال صعبة وفق ما يُفهم من الخطاب الاخير للسيد نصرالله.
الأكيد نعم، ستحصل انفراجات لأن التعاون في ضرب الارهاب ولضمان المصالح الكبيرة في المنطقة يحتاج تفاهمات وتحولات وانفراجات. يحكى عن ورقة سياسية ايرانية في شأن سوريا تهدف الى توسيع قاعدة الحكم في المستقبل. هذا أمر مهم، شرط عدم المساس بصلاحيات الرئيس.
لكن هل الانفراجات ستحصل بسرعة ومن دون عقبات؟
الأكيد لا. التفاوض قد يتعثر وقد يسير. عوامل كثيرة قد تدخل على الخط. اسرائيل القلقة والمتعثرة العلاقات حالياً مع اميركا تراقب وتخطّط، وقد تحرج الجميع بمغامرة متهورة. الخليج القلق من الدور الايراني ومستقبل التقارب الاميركي ــــ الايراني يبحث عن كيفية تغيير مجرى الرياح الاميركية. المتشددون في اميركا وايران نفسها قد لا يرغبون بالذهاب ابعد في التنازلات المتبادلة.
كل شيء وارد. لكن لا شك في ان المنطقة تدخل ابتداءً من اليوم في مرحلة التحوّلات الكبرى. ليس أمراً عادياً ان يجلس الاميركيون والايرانيون على طاولة واحدة للتفاهم. هذا في حد ذاته أول التحولات المفصلية.
صحيفة الأخبار اللبنانية – سامي كليب