أوكرانيا.. صراع الحقائق
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
بعد مرور شهر ونيف من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، لا يمكننا تجاهل الحقائق والمعطيات التي أظهرتها هذه العمليات، سواء من حيث الدوافع والأسباب أم من حيث القوى والأطراف المنخرطة، ولا من حيث التطورات والمتغيرات المتسارعة ولا حتى من حيث النتائج المتوقعة أو المتصورة خلال الفترة القادمة، ولاسيما في ظل الاحتدام والتجاذب السياسي الحاصل في الأروقة الدولية والاصطفافات التي بدأت تتبلور في توجهات الفواعل السياسية، مما يعيد ذاكرتنا التاريخية لحقبة الحرب الباردة وبخاصة معالم أزمة الصواريخ الكوبية مطلع الستينيات من القرن الماضي والتي أوصلت النظام الدولي حينها لحافة الحرب العالمية الثالثة.
وبالعودة لهذه الحقائق والمعطيات، يبدو جلياً أنها ليست متعلقة بالشأن العسكري فقط ولا يتعلق حصرها بالجانبين الروسي والأوكراني دون أدنى شك، ونتائجها لن تقتصر على نطاق محدود جغرافياً ولن تكون محصورة في الخسائر المادية والبشرية، ولا برابح وخاسر كما هي حال الحروب والصراعات التقليدية، وبناء على ما سبق يمكن تسجيل النقاط التالية:
أولاً: ما يحصل في أوكرانيا وعلى الرغم من تسميته «بعمليات عسكرية خاصة» من الجانب الروسي، و«غزو» من الخصم الأوكراني. هي فعلاً أقل من حرب عسكرية شاملة وأكثر من مجرد عملية عسكرية محدودة، هذا بالتوصيف الشكل، ولكنها تعبر في مفاعيل ضمنية عن صراع جيو _استراتيجي بحت، وستكون له نتائج وهزات جيو استراتيجية، من المؤكد أنها ستؤثر في شكل النظام الدولي وطبيعته التي سادت خلال عقود سابقة. بل إن المخاض اليوم في تغيير هذا النظام من المحتم ستنجم عنه حالات فوضى وارتدادات سلبية على شتى الصعد، من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة تتراجع بها مؤشرات الفوضى العارمة، لمصلحة بقاء الفوضى المركزة، على غرار لعبة الشطرنج التي تبدأ بتحريك الجنود بداية المنافسة والتنقل بين الرقع البيضاء والسوداء وتنتهي بمواجهة الكبار نهاية اللعبة والوصول لصيغة توافقية يعاد من خلالها بدء اللعبة مجدداً ويعاد تحريك الجنود كبداية جديدة حينما يصعب هزيمة أحد الطرفين.
لذلك اعتبار ما يحصل بالصراع الجيو استراتيجي ينبع من دوافع حدوثه، حيث كانت تعبيراً عن صراع وجود بالنسبة لروسيا الاتحادية، ورغبة بالتمدد من قبل حلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يفسر بالدرجة الأولى التعنت الغربي لعدم حل الأزمة الأوكرانية سلمياً ورغبتهم في تحويل جغرافيتها لساحة استنزاف طويلة الأمد بالنسبة للجيش الروسي على غرار ما حصل في أفغانستان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو ما دفع بالأطلسي لضخ هذه الكميات الكبيرة بالسلاح لأوكرانيا بعد إعادة تأهيل جيشها وعزل القيادة المتأثرة بالإيديولوجية السوفييتية وتشكيل ميليشيات عنصرية متطرفة «آزوف» لتكون وسيلة هذا الاستنزاف، فضلاً عن اختيار توقيت الشتاء لزيادة حدة هذا المستنقع وصعوبة العمل العسكري به.
ثانياً: نتائج هذا الصراع لن تكون محصورة بهزيمة أوكرانيا واستسلامها ولن تكون في المقابل توقف روسيا عن عملياتها، فبما أن الغرب يشن حرباً عسكرية غير مباشرة على روسيا عبر أوكرانيا ويهدد أمنها القومي، فإن توقف الحرب يعني إقراراً غربياً بعجزه عن مقارعة روسيا أو عجز الأخيرة عن مقارعة الغرب، وفي كلا الحالتين سنكون أمام نتائج جيو استراتيجية، إما الإقرار بعودة الدب الروسي للساحة الدولية وهو ما يترتب عليه سقوط الأحادية القطبية، أو تعزيز الأحادية القطبية في حال تعرض روسيا لانتكاسة في أوكرانيا، وهذان الخياران سيترتب عليهما تداعيات وآثار دولية سواء فيما يتعلق بالنفوذ وأشكال الصراع وآليات حل الأزمات وإدارتها والاقتصاد وغيرها الكثير.
ثالثاً: على مدى أكثر من عقدين وبخاصة منذ تولي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سدة الحكم في بداية الألفية الجديدة، سعت موسكو لإنشاء علاقات جديدة مع الأوروبيين قوامها ترسيخ مرتكزات الأمن القومي المشترك عبر تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، وهو ما نجحت به الدبلوماسية الروسية ولاسيما مع ألمانيا وعبر خطوط الطاقة المتجهة نحو أوروبا، غير أن الأزمة الأوكرانية أظهرت على هذا الصعيد تبعية الاتحاد الأوروبي للتوجهات الأميركية، فنجاح أميركا في استمرار تجميد «السيل الشمالي»، هو ليس لمعاقبة وحصار روسيا فحسب، بل لإبقاء الأوروبيين ضمن تأثيرات الخضوع لمشروع مارشال الذي طرح بعد الحرب العالمية الثانية. وانجرار الأوروبيين نحو إغداق السلاح باتجاه أوكرانيا سيكون له انعكاسات تزيد من تصدع الأمن القومي الأوروبي، بأكثر تداعيات من تلك التي ظهرت أثناء انخراطهم في السلوك ذاته لإسقاط الدولة السورية، وذلك لسبب بسيط هو قرب أوكرانيا، وعليه يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي نتيجة غياب زعماء يملكون كاريزما وشخصية مستقلة، والتأثر بالتهديدات الأميركية ولأسباب تتعلق ببعض الأوروبيين كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاستثمار أزمة أوكرانيا في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي العام القادم، يضعون أمن أوروبا في مهب الريح ويؤكدون أن أوروبا ليست قزماً سياسياً فحسب بل قزم اقتصادي، نتيجة ما بدأ يعانيه اقتصادهم من العقوبات التي فرضوها هم على روسيا.
رابعاً: مرة جديدة تشهد العلاقات الدولية تنامي لظاهرة خطيرة، تتمثل بتوظيف الإرهاب كأحد معالم تنفيذ السياسات الخارجية، الأمر الذي يجعل من الإرهابيين أدوات وظيفية عابرة للحدود الجغرافية لديهم ما يكفي من الخبرات، لممارسة أبشع السلوكيات.
خامساً: أدوات الصراع التي توظف اليوم لم تعد تنحصر بالقوة العسكرية، بل باتت هناك وسائل أشد فتكاً كالأمراض الجرثومية والحرب السيبرانية والحصار الاقتصادي والحرب الدعائية وصراع العقول والتكنولوجيا، وجميعها أدوات مدمرة للبشرية.
سادساً: يعتبر تحكم أميركا بالاقتصاد الدولي ومؤسساته المالية والنقدية واستبدادية الدولار، أبرز دعائمها في الحفاظ على الهيمنة الدولية، وهو ما يفرض على الدول المناوئة لها إيجاد نموذج بديل في ظل امتلاكها الإمكانات اللازمة التي لم توظف بعد على أفضل وجه.