أمريكا والمناطق العازلة .. وفن الإغراء والإغواء
موقع إنباء الإخباري ـ
بقلم حسن شقير*:
لماذا ترفض أمريكا المنطقة العازلة والحظر الجوي على الحدود السورية مع تركيا ، في حين أنها شجعت وباركت إقامتها في الجولان السوري المحرر ؟
سؤالٌ لا بد من الإجابة عليه وفق الرؤية التي نعتقدها ، من مشروع أمريكا والكيان الصهيوني في المنطقة .. والتي – مع الأسف – تثبت الوقائع يوماً بعد يوم ، أن أوان تنفيذها ، قد أضحى فعلا ً واقعاً على الأرض .
عندما افتعلت الحرب في سوريا وعليها ، كانت المعادلة التي تحكم يوميات الحرب هناك ، وذلك بفعل تفاهم ضمني بين الدول الممسكة والداعمة لأطراف النزاع فيها ، تتلخص في عدم جواز اللعب تحت الحزام ، وبالتالي يُحظر على الجميع في الداخل ، وكذا في الخارج ، أن. يتخطوا الخطوط الحمراء التي فرضت نفسها بقوة في هذه المرحلة من عمر صراع الأمبراطوريات المتراجعة والصاعدة ، وكذا في زمن اللانظام الدولي ، و إعادة صياغته من جديد …
ضمن هذا السقف ، عبثت أمريكا وحلفائها القدامى والجدد ، في سوريا والمنطقة برمتها ، لا بل أن محطات الصراع التي انطلقت ، مع بداية الحرب على سوريا ، تُثبت أن أمريكا ، كانت بين الفينة والأخرى – وبفعل ذرائع متعددة – تختبر تلك المعادلة ، ومدى استمرارية المحور المقابل لها في التمسك بها والوقوف عندها ، والشواهد على ذلك كثيرة …
لم تكن بدعة المناطق العازلة ، الجديدة – القديمة ، تحيد عن تلك الإختبارات الأمريكية ، سواء بشكل مباشر منها ، أو عن طريق حلفائها ، كما هو الحال مؤخراً مع تركيا … إلا ّ نموذجاً وتجسيداً لفحص الجاهزية والمبدئية لدى كل من محور الممانعة وروسيا وباقي الدول المساندة …
أطلقت تركيا بالون اختبار المنطقة العازلة في فضاء الأزمة السورية .. ولم تكد تمضي أيام قلائل ، حتى انجلت الغبرة ، عن موقف إيراني وروسي ، جلي وواضح … وذلك تذكيرا ً بالمعادلة أعلاها ، لا تلعبوا تحت الحزام ، ولا تتخطوا الخطوط الحمراء .
هذان الموقفان ، الإيراني والروسي ، رسما من جديد حدود الصراع في سوريا ، ومن حولها … وبما أننا كنا منذ البداية ، ندرك أن المشروع الحقيقي لأمريكا في المنطقة – إضافة إلى المنافع الأمريكية المباشرة وغير المباشرة – ، يتمثل أولا ً في حماية الكيان الصهيوني ، ولفترة مدديدة من السنين والعقود … فلأجل ذلك ، لم يكن مسموحاً لأحد في ذاك التحالف الأمريكي ، والذي يرفع شعار محاربة الإرهاب في المنطقة ، أن يعرقل أو أن يتجاوز ما رسمه ديمبسي في أخر زيارة له إلى الكيان الصهيوني … وما تمخضت عنه تلك الزيارة من رسم لهوامش الحركة لدى كافة دول الإلتحاق العربي والإسلامي ، على حد سواء .
إذا ، ومن اليوم الأول اعتقدنا أن مشروع أمريكا في سوريا ، والذي كشف عنه ديمبسي ، وتطرقنا إليه في مقالة ” ديمبسي يكشف مستور التحالف في المنطقة ” ، يتمثل في تفتيت سوريا ، وتقسيمها كأمر واقع ، يستجد لاحقاً في مرحلة جديدة من مراحل الحرب على الإرهاب ، والذي يتمثل في الرهان على ملء فراغ الدواعش المنزاحة ، من قبل ” المعارضين المعتدلين ” ، وتشكيل الإطار السياسي والعسكري لهؤلاء … وقد فصلّنا باقي المخطط في تلك المقالة ..
من هنا فإن مشروع المنطقة العازلة التركية ، يتخطى معادلة الخطوط الحمراء ، وينسف خيوط التفاهم الأمريكي – الصهيوني ، التي نسجها ديمبسي لحماية الكيان الصهيوني ، حيث يُفضّل هذا الأخير ” الأحزمة المُستنزِفة ” لضرب الثلاثيات الذهبية ، ونماذج حزب الله في المنطقة .. وقد تطرقنا لها أيضاً في مقالة ” ثلاثيات التهديد .. وأحزمة الإستنزاف ” .
مؤخراً ، زاوجت أمريكا بين مشروعها المشترك مع الكيان الصهيوني ، والمشروع التركي في سوريا والمنطقة ، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية ، عن انتهاء الخلاف مع تركيا بشأن المنطقة العازلة والحظر الجوي على جزء من الأرض السورية … وذلك عبر قبول تركيا بالتخلي – ولو ضمنياً – عن هذه الفكرة المفجّرة للخطوط الحمراء ، وذلك لصالح فكرة تدريب المعارضين المعتدلين على الأراضي التركية ، وذلك في مساواة أمريكية لتركيا بالسعودية ، والتي هي في الضفة الثانية من التحالف حولها …
السؤال البديهي : ما الذي يمكن أن تكون قد وُعدت به تركيا ، لقاء تخليها عن مشروعها الأساس ؟ وهل يمكن لتلك الوعود أن تلبي طموح أردوغان ، وإعادة الإعتبار لمصداقيته ، ولمصداقية مشروع الإخوان الذي تعثر في المتطقة ؟
لا شك ، أنه وقبل محاولة استشراف ذلك ، لا بد أن نذّكر أن السعودية التي وافقت على دخول التحالف الأمريكي ، وقبلت بمشروع تدريب من تصفهم بالمعارضين المعتدلين … كانت – وخلافا ً لما يعتقده كثر – قد استحصلت على وعد أمريكي جازم بعدم جعل الحرب على داعش ، نافذة جديدة في إعادة تعويم النظام السوري وتجديد ” شرعيته ” في أي حال من الأحوال .. هذا فضلا ً عن الخلفية السياسية والعسكرية لتلك القيادة التي تحدث عنها ديمبسي ، ومواطن ولاءاتها الفعلية …
ما نعتقده فعلاً ، من أن أمريكا التي أرجعت النار إلى تحت رماد الأزمة المستعرة ما بين قطر وباقي الدول الخليجية ، وذلك ببعض التنازلات المتبادلة بينهما … وذلك خدمة للمشروع الأم في التحالف .. هي نفسها أمريكا التي دوزنت – ولو على الورق لغاية اليوم – المصالح التركية والسعودية في الكعكة السورية المفترضة … وذلك بشكل لا يتعارض مطلقاً مع النصيب الأكبر والأوفر لها وللكيان الصهيوني فيها …
إذا ، وتأسيساً على ذلك ، ستبدأ النقاشات الأمريكية – التركية – السعودية ، العتيدة في الاتفاق على الحصص السياسية والعسكرية للمنتج المعارض بحلته الجديدة ، وبعيدا عن حلة الإئتلاف اليوم ، والذي تبدو أنها قد دخلت في عصر الأفول … تمهيداً لإعادة صياغتها من جديد بين هذه الأطراف الثلاث ، ووفقاً لما تفتضيه مصلحة الثالوث أعلاه .
اعترضت تركيا على ازدواجية التعاطي الأمريكي للمناطق العازلة في سوريا ، ففي حين أن الكيان الصهيوني قد أسهم بشكل رئيس في إقامة الإرهابيين للمنطقة العازلة في الجولان ، ومن ثم حمايتها صهيونياً ، ومدها بمقومات الصمود والإنعاش ، لا بل والتمدد أيضاً … الأمر الذي لم تقبل به أمريكا على الحدود السورية – التركية .. وذلك لغاية اليوم !!!
ما نعتقده أن التبريرات التي ساقتها واشنطن تفيد ، أن الإختلاف يقع في تلك المنطقتين على الحدود السورية ، يكمن من خلال الموقع الجغرافي والأهداف التي توضع لكليهما .. ففي حين أن المنطقة العازلة في الجولان ، لا تصلح لأن تتحول إلى دويلة سورية ، يُنصّب لها قادة سياسيين وعسكريين .. ومن ناحية أخرى فإنها لا تتخطى في أهدافها ، إفشال ووأد الثلاثية الذهبية على الحدود السورية مع الكيان ، هذا فضلا ً عن تحويلها إلى حزام أمني يستنزف هذه الثلاثية ، والتي ستسعى على الدوام للتماس مع هذا الكيان ، وألا ّ تعيش – أي هذه الثلاثية – الاستقرار أبداً ، و حتى لو بقيت في مواقعها الخلفية …
العكس تماماً هو الذي ساقته على ما يبدو أمريكا في تبريراتها لتركيا ، وذلك من حيث الموقع الجغرافي المؤهل لإنشاء
الدويلة الموعودة ، والتي يمكن – بحسب الإغراء الأمريكي -، أن تكون لتركيا الحصة الوازنة فيها .. إن هي سارت بالركب الأمريكي ، وهذا الذي يبدو أن الإتفاق مع تركيا قد أنجز حوله ، ولتترك التفاصيل للوفد العسكري الأمريكي القادم إلى تركيا قريباً .. فالمنطقة العازلة بحلتها التركية ، يمكن تشذيبها وجعلها تحقق المطلوب منها لاحقاً ، دون أن تتجاوز الخطوط الحمراء مع روسيا ومحور الممانعة ، والتي ربما تفتح الصدام معهم ، وهذا ما لا ترغبه أمريكا بالتأكيد ، ولأجل ذلك ، تسعى أمريكا لإقناع تركيا بأن الأهداف الكبرى لتركيا من خلال إقامتها تلك المنطقة ، ستتحقق لاحقاً بأيدي سورية ، بدلا ً من أن تكون أطلسية أو حتى تركية .
خلاصة القول ، لقد أثبتت التطورات المتسارعة في المنطقة ، أن أمريكا لا تزال قادرة على إدارة الخلافات بين دول التحالف من حولها ، وذلك عندما تكون القضية متعلقة بالمصالح الأمريكية في المنطقة ، أو حتى بالأمن الصهيوني ، وآن هامش الحركة لضفتي التحالف من حولها ، يتوقف عند المس بأي منهما … أما ما دون ذلك ، فهو مسموح …لا بل ربما يكون مرغوبا أيضاً …فهي تتقن فعلا ً فن الإغراء والإغواء على حد سواء .
* باحث وكاتب سياسي